فصل: موعظة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

عِبَادَ اللهِ لَقَدْ ضَاعَتْ أَعْمَارِنَا فِي الْقِيلِ وَالْقَالِ، وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، والْمُدَاهَنَةِ، وَالانْهِمَاكِ في الدُّنْيَا، إِلى أَنْ اسْتَلْحَقَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ جُزْءًا مِنْ اللَّيْلِ مُضَافًا إِلى النَّهَارِ، وَكَأَنَّنَا لَمْ نُخْلَقْ إِلا لِهَذِهِ الأَعْمَالِ، أَفَلا نَسْتَيْقِظُ مِنْ غَفْلَتِنَا، وَنَحْفَظُ أَلْسِنَتِنَا عَنْ نَهْشِ أَعْرَاضِ الغَوَافِلِ، وَالطَّعْنِ فِي الأَحْسَابِ وَالأَنْسَابِ، وَنَصْرِفَ جُلَّ الأَوْقَاتِ، إِلى البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، التِي هِيَ خَيْرٌ عِنْدَ رِبِّنَا ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدا، وَنَذْكُرَ مَوْلانَا الذِي فَضْلُهُ عَلَيْنَا مِدْرَارٌ، فَإِنَّ الذِّكْرَ عَاقِبَتُهُ الْجَنَّةُ دَارُ الكَرَامَةِ وَالْقَرَارِ، مَعَ رِضَى رَبِّنَا الذِي دُونُهُ كُلُّ ثَوَابٍ، تَاللهِ لَوْ عَرَفْتُم قِيمَةِ هَذِهِ النَّصِيحَةِ لَبَادَرْتُمْ إِلى الْعَمَلِ بِهَا كُلَّ البِدَارِ فَإِنَّكَ وَأَنْتَ تَذْكُرُ الله أَفْضَلِ مِمَّنْ يُفَرِّقُ الذَّهَبَ وَالفِضَّةِ وَسَائِرَ الأَمْوَالِ وَأَفْضَلُ مِنْ أَنْ تُجَاهِدَ العَدُو فَيَضْرِبَ عُنُقَكَ، أَوْ تَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتَكُونَ مِنْ الشُّهَدَاءِ الأَبْرَارِ، كَيْفَ لا وَالذِّكْرُ خَيْرِ الأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا، وَأَرْفَعَهَا لِلدَّرَجَاتِ عِنْدَ مَوْلانَا الوَّهَّابُ حَسْبُ الذَّاكِرِ أَنْ تَحُفَّهُ الْمَلائِكَةُ، وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَتَغْشَاهُ الرَّحماتُ، وَمَنْ في الوُجُودِ مِثْلُ الذَّاكِرُ، وَهُوَ وَقْتُ ذِكْرِهِ للهِ بَارِي الكَائِنَاتِ، وَمَنْ مِثْلُهُ في الدُّنْيَا وَهُوَ بالذِّكْرِ في حِصْنٍ يَحْفَظَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسَهِ الفَاتِنَاتِ، وَمَنْزِلَةُ الذَّاكر بَيْنَ الغَافِلِينَ كَمَنْزِلَةِ الْحَيّ بَيْنَ الْمَيِّتِينَ، ذِكْرُ الله يُنِيرُ القلبَ، وَيُوقِظَهُ وَيُحْييهِ وَيُزِيلُ رَانَهُ وَيَهْدِيهِ إِلى الْحَقِّ، قَالَ تَعَالَى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
مَا مَاتَ مَنْ يَتْلُوا الْقُرْآنَ دَوَامَهُ ** يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ مِنْ الأَحْكَام

آخر:
يَا لَيْتَ أَلْفُ لِسَانٍ أَسْتَعِينُ بِهَا ** عَلَى قِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَتَهْلِيل

.خَاتِمَة، وَصِيَّة، نَصِيحَة:

اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبَّهُ الله وَيَرْضَاهُ أَنَّ مِمَّا يَجِبُ الاعْتِنَاءُ بِهِ حِفْظًا وَعَمَلاً كلام الله جَلَّ وَعَلا وَكَلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ وَفَّقَهُ الله تعالى أَنْ يَحُثَّ أَوْلادَه عَلَى حِفْظ القُرآن وما تَيَسَّرَ مِن أَحَادِيث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الْمُتَّفَق على صحَّتِها عنه كَالبُخَارِي وَمُسْلِم.
وَمِنْ الفقه مُخْتصرَ المقنِع لِيَيسَّرَ لَهُ اسْتِخْرَاجُ المسائل وَيَجْعَلُ لأَوْلادِهِ مَا يَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
فَمَثلاً يَجْعَلُ لِمَنْ يَحْفَظُ القُرآنَ على صَدْرِهِ حِفْظًا صَحِيحًا عَشَرَةَ آلافِ أَوْ أَزْيَد أَوْ أَقَلْ حَسَبَ حَالِهِ في الغِنَى.
ومِن الأحَادِيث عُقُودَ اللُؤلؤ والمرجَان فيما اتفق عَلَيْهِ الإِمَامَان البُخَارِي ومسلم، يَجْعَلُ لِمَنْ يَحْفَظٌ ذَلِكَ سِتَّة آلاف.
فَإِنْ عَجَزُوا عَنْ حِفْظِهَا فالعُمدة في الحديث يَجْعَلُ لِمَنْ حَفِظَها ثلاثة آلاف، أَوْ الأربعين النَّوَوِيَّةِ وَيَجْعَل لمن يَحْفَظْهَا أَلْفًا.
وَيَجْعَلُ لِمَنْ يَحْفَظُ مُخْتَصَرَ المقنع في الفقه أَلْفَيْن مِن الرَّيَالاتِ فالغَيْبُ سَبَبٌ لِحِفِظِ المسائل وَسَبَبٌ لِسُرعَةِ اسْتِخْرَاج ما أُرِيدَ مَن ذَلِكَ وَمَا أَشْكَلَ مَعْنَاه أَوْ يُدَخِّلُهُم في مَدَارِسِ تَحْفِيظِ القُرْآنِ فَمَدَارِسُ تَعْلِيمِ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ هَيِ مَدَارِسُ التَّعْلِيم العَالي الْمُمْتَازِ البَاقِي النَّافِعِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أَوْ يُدْخلهم في حَلَقَاتِ تَحْفِيظِ القُرْآن الكرِيم الموجودة في الْمَسَاجِد.
وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائقِ مِنْ مُرْبٍّ ** كَعِلْمٍ الشَّرْعِ يُؤخَذُ عَنْ ثِقَاتِ

بِبَيْتِ اللهِ مَدْرَسَةِ الأَوَالِي ** لِمَنْ يَهْوَى الْعُلُومَ الرَّاقِيَات

فَمَنْ وَفَّقَهُ الله لِذَلِكَ وَعَمِلَ أَوْلادُهُ بِذَلِكَ كَانَ سَبَبًا لِحُصُولِ الأَجْرِ مِنْ الله وَسَببًا لِبِرِّهِم بِهِ وَدُعَائِهِم لَهُ إِذَا ذَكَرُوا ذَلِكَ مِنْهُ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ سَببًا مُبَارَكًا يَعْملُ بِهِ أَوْلادُهُ مَعَ أولادهم فَيزيدُ الأَجْرُ لَهُ وَلَهم. نَسَأْل اللهُ أَنْ يُوَفِّق الْجَمِيع لِحُسْنِ النَّيَة.
فَائِدَةٌ:
وَاعْلَمْ أَنَّ الأَوْلادَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الذَّكَاءَ وَعُلوِّا الْهِمَّةِ فيُعْطَى كُلِّ وَاحِدٍ مَنْزِلَتَه، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِاخْتَياراتِهِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ الصِّبْيَانَ يَجْتِمَعُونَ لِلَّعِبِ فَيَقُولُ عَالِي الْهِمَّةِ: مَنْ يَكُونُ مَعِي؟ وَيَقُولُ: قَاصِر الْهِمَّةِ: مَنْ أَنَا مَعَهْ؟
الْعِلْمُ أَعْلَى وَأَحْلَى مَالَهُ اسْتَمَعَتْ ** أُذْنٌ وَأَعْرَبَ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَمِ

الْعِلْمُ غَايَتُه القُصْوَى وَرُتْبَتُهُ ** الْعُلْيَاءُ فَاسْعَوا إِلَيْهِ يَا ذَوِيْ الْهِمَمِ

لَلْعِلْمُ أَشْرَفُ مَطْلُوبٍ وَطَالَبُهُ ** للهِ أَكْرَمُ مَن يَمْشِي عَلَى قَدَم

الْعِلْمُ نُورٌ مُبِينٌ يَسْتَضِيءُ بِهِ ** أَهْلُ السَّعَادَةِ وَالْجُهَالُ في الظُلَمِ

الْعِلْمُ أَعْلَى حَيَاةٍ لِلْعِبَادِ كَمَا ** أَهْلُ الْجَهَالَةِ أَمْوَاتٌ بَجَهْلِهم

الْعِلْمُ وَاللهِ مَيراثُ النُّبُوةِ لا ** مِيراثَ يُشْبِهُهُ طَوْبَى لِمُتْسَمِ

لأَنَّهُ إِرْثُ حَقٍ دَائِمٍ أَبَدًا ** وَمَا سَوَاهُ إِلى الإِفْنَاءِ وَالْعَدَمِ

الْعِلْمُ مِيزَانُ شَرْعُ اللهِ حَيْثُ بِهِ ** قِوَامُهُ وَبِدُونِ الْعِلْمِ لَمْ يَقُمِ

وَسُلْطَةُ الْعِلْمِ تَنْقَادُ الْقُلُوبُ لَهَا ** إلى الْهُدَى وَإلى مَرْضَاةِ رَبِهِم

وَيَذْهَبُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ العِـ ** ـلْمُ الذِي فِيهِ مَنْجَاةٌ لِمُعْتَصِمِ

الْعِلْمُ يَا صَاحِ يَسْتَغْفِرْ لِصَاحِبِهِ ** أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِينَ مِن لمَمِ

كَذَاكَ تَسْتَغْفِرُ الْحِيتَانُ في لِجَجٍ ** مَنْ البِحَارِ لَهُ فِي الضَّوءِ وَالظُّلَمِ

وخارجَ في طِلابَ العِلْمِ مُحْتَسِبًا ** مُجَاهدٌ في سَبِيلِ اللهِ أَيَّ كَمِي

وأَنَّ أَجْنِحَةَ الأَمْلاكِ تَبْسُطُها ** لِطَالِبِيهِ رَضِىً مِنْهُمْ بِصُنْعِهِمْ

وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْعِلْمِ يُسْلِكُهُمْ ** إِلى الْجِنَانِ طَرِيقًا بَارِئَ النَّسَمِ

وَالسَّامِعُ الْعِلْمَ وَالوَاعِي لِيَحْفَظهُ ** مُؤْذِيا نَاشِرًا إِيَّاهُ في الأُمَمِ

فَيَا نَضَارَتَهُ إِذَا كَانَ مُتصفًا ** بِذَا بِدَعْوَةِ خَيْرِ الْخَلْقِ كُلِّهْمُ

كَفَاكَ فِي فَضْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ رُفِعُوا ** مِنْ أَجْلِهِ دَرَجَاتٍ فَوْقَ غَيْرِهِمُ

وَكَانَ فَضْلِ أَهْلِ أَبِينَا في القَدِيمِ عَلَى ** الأَمْلاكِ بالْعِلْمِ مِنْ تَعْلِيمِ رَبِهمُ

كَذَالِكَ يُوسُفُ لَمْ تَظْهَرْ فَضِيلَتُهُ ** لِلْعَالِمِينَ بِغَيْرِ الْعِلْمِ وَالْحِكم

وَقَدَّمَ الْمُصْطَفَى بِالْعِلْمِ حَامِلَهُ ** أَعْظَمْ بِذَلِكَ تَقْدِيمًا لِذِي قَدم

كَفَاهُمُوا أَنْ غَدَوْا لِلْوَجى أَوْعِيَةُ ** وَاضْحَتِ الآي مِنْهُ فِي صُدُورِهِم

وَأَنْ غَدَوْا وُكلاءٌ في القِيَامِ بِهِ ** قَوْلاً وَفِعْلاً وَتَعْلِيمًا لِغَيْرِهِم

وَخَصَّهُم رَبُّنَا قَصْرًا بِخَشْيَتِهِ ** وَعَقْلِ أَمْثَالِهِ فِي أَصْدَقِ الْكَلِمِ

وَمَعْ شَهَادَتِهِ جَاءَتْ شَهَادَتُهُمْ ** حَيْثُ اسْتَجَابُوا وَأَهْلُ الْجَهْلِ فِي صَمَمِ

وَالعَالِمُونَ عَلَى العُبَّادِ فَضْلِهِمُ ** كَالْبَدْرِ فَضْلاً عَلَى الدُّرِي فَاغْتَنِمِ

وَبَالْمِهُمِّ الْمُهِمِّ ابْدَأْ لِتَدْرِكَهُ ** وَقَدِّمِ النَّصَ عَلَى الآرَاءِ فَافْتَهِمِ

قَدِّمْ وُجُوبًا عُلُومَ الدِّينِ إِنْ رِهَا ** يَبْيِنُ نَهْجُ الْهُدَى مِنْ مُوجِبِ النَّقْمِ

وَكُلُّ كَسْرِ الفَتَى فَالدِّينُ جَابُرهُ ** وَالْكَسْرُ في الدِّينِ صَعْبٌ غَيْرُ مُلْتَئِمِ

مَا الْعِلْمِ إلا كِتَابُ اللهِ أَوْ أَثَرٌ ** يَجْلُوا بِنُورِ هُدَاهُ كُلَّ مُنْبِهِمِ

مَا ثَمَّ عِلْمٌ سِوَى الوَحْيِ الْمُبِينِ وَمَا ** مِنْهُ اسْتُمِدَّ إِلا طُوبَى لِمُغْتَنِمِ

وَالكَتْمُ لِلِعِلْمِ فَاحْذَرْ إِنَّ كَاتِمَهُ ** فِي لَعْنَةِ اللهِ وَالأَقْوَامِ كُلِّهُمِ

وَمِنْ عُقُوبَتِهِ أَنْ في الْمَعَادِ لَهُ ** مِنْ الْجَحِيمِ لِجَامًا لَيْسَ كَاللُّجُمِ

وَكَاتِمُ العِلْمِ عَمَّنْ لَيْسَ يَحْمِلُهُ ** مَاذَا بِكِتْمَانْ بِلا صَوْنٌ فَلا تُلمِ

وَإِنَّمَا الْكَتْمُ مَنْعُ العِلْمِ طَالِبُهُ ** مِن مُسْتَحِقٍ لَهُ فَافْهَمْ ولا تَهِمِ

وَاتْبِعِ الْعِلْمِ بِالأَعْمَالِ وَادْعُ إِلى ** سَبِيلِ رَبَّكَ بِالتِّبْيَانِ وَالْحِكَمِ

وَأَصْبَره عَلَى لاحِقٍ مِنْ فِتْنَةٍ وَأَذَى ** فِيهِ وَفِي الرُّسْلِ ذِكْرَى فَاقْتَدِهْ بِهِم

لِوَاحَدٌ بِكَ يَهْدِيهِ الإِلِهُ لِذا ** خَيْرٌ غَدًا لَكَ مِن حُمْرٍ مِن النَّعَمِ

وَاسْلُكْ سَواءَ الصَّراطِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا ** تَعْدلْ وَقُلْ رَبِّي الرَّحْمَنُ وَاسْتِقمِ

يَا طَالبَ الْعِلْمِ لا تَبْغِي بِهِ بَدَلاً ** فَقد ظِفْرت وربِّ اللوحِ والقلمِ

وَقَدِّسِ الْعِلْمَ وَاعْرِفْ قَدْرَ حُرْمَتِهِ ** في القَوالِ وَالفِعل والآدابِ فالتَزمِ

وَاجْهَدْ بِعَزْمٍ قَوي لا انِثنَاءَ لَهُ ** لَوْ يَعَلْمَ ُالمرءُ قَدْرَ الْعِلْمِ لَمْ يَنَمِ

وَالنُّصْحَ فابْذِلْهُ لِلطُّلابِ مُحْتَسِبًا ** فِي السِّرِ وَالْجَهْرِ وَالأَسْتَاذَ فَاحْتَرِمِ

ومَرْحَبًا قُلْ لِمَنْ يَأْتِيكَ يَطْلُبِهُ ** وَفِيهِمْ احْفَظْ وَصَايَا الْمُصْطَفَى بِهِم

وَالنِّيَةُ اجْعَلْ لِوَجْه اللهِ خَالِصَةٌ ** إِنْ البِنَاءُ بِدُونِ الأَصْلِ لَمْ يَقُمِ

وَمَنْ يَكُنْ لِيَقُولُ الناسُ يَطْلُبِهُ ** أَخْسِرْ بِصَفُقُتِهِ فِي مَوْقِفِ النَّدَمِ

وَمَنْ بِهِ يَبْتَغِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ لَهُ ** يَوْمَ القِيَامَةِ مِن حَظ ولا قِسمِ

إِيَّاكَ وَاحْذَرْ مماراتِ السَّفِيهِ بِهِ ** كَذَا مُبَاهَاتٍ أَهْلِ العِلْمِ لا ترم

فَإِنْ أَبْغَضَ كُلِّ الْخُلْقِ أَجْمَعُهُمْ ** إِلى الإِلهِ أَلَدَّ النَّاسِ في الْخِصَمِ

وَالعُجْبَ فَاحْذَرْهُ إِنَّ العُجْبَ مُجْتَرِفٌ ** أَعْمَالَ صَاحِبِهِ فِي سُيْلِهِ العَرِم

آخر:
ضَيَّعْتَ عُمْرِكَ يَا مَغْرُورُ في غَفَلِ ** قُمْ لِلتَّلاقِي فَأَنْتَ اليَوْمَ فِي مَهَلِ

وَاسْتَفْرِغِ الدَّمْعَ مِمَّا فَاتَ مِنْ زَمَنٍ ** وانْدُبْ بِتَوْبَة عَلَى أَيَّامِكَ الأُولِ

بَادِرْ إِلى صَالِحِ الأَعْمَالِ مُجْتَهِدًا ** فَالنُّجْعُ فِي الْجِدِّ وَالحِرْمَانُ فِي الكَسَلِ

كُنْ لا محالةَ في الدُّنْيَا كَمُغْتَرِب ** عَلَى رَحِيلِ دَنَى أَوْ عَابِرِ السُّبُلِ

دَارُ الْخُلُودِ مَقَامًا دَارُ آخِرَةٍ ** إِنَّ الإقَامةَ في الدُّنْيَا إِلى أَجَلِ

وَكُلُّ مِن حَلَّ في الدُّنْيَا فَمُرْتَحِلٌ ** يَوْمًا لِمَنْزِلَةٍ في إثْرِ مُرْتَحِلِ

هَلا اعْتَبَرْتُ فَكَمْ حَلُّوا وكَمْ رَحَلُوا ** وَإِنَّما النَّاسُ في حِلٍّ وَمُرْتَحِلِ

إِذَا تَجَهَّمَ أَمْرٌ لا مَرَدَّ لَهُ ** لَمْ يُغْنِ عَنْكَ اقْتِنَاءُ الْمَللِ وَالْحُلَلِ

يَقُومُ عَنْكَ الأطِبَّاءِ وَالصِّدِيقُ إِذًا ** وَقَدْ طَوَوْا صُحُفَ التَّدْبِيرِ وَالْخُيَلِ

فَيُدْرِجُونَكَ في الأَكْفَانِ مُنْتَزِعًا ** عَنْكَ الثِّيَابُ مِنْ الأَبْرَادِ وَالْحُلَلِ

وَيُودِِعُونَكَ تَحْتَ الأَرْضِ مُنْفَرِدًا ** وَيَتْركُونَكَ مَحْجُوبًا مِنْ الْمُقَلِ

وَقَائِلٌ مِنْهُمْ قَدْ كَانَ خَيْرَ أَبٍ ** وَقَائِلٌ مِنْهُمُ قَدْ كَانَ خَيْرُ وُلِي

فَبَعْدَ ذَلِكَ لا يَدْرُونَ مَا فَقَدُوا ** وَهَمُّهُمْ في اقْتِسَامِ الإِرْثِ بِالْجَدَلِ

وَبَعضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ مُخَاصَمَةٍ ** وَإِنَّهُمْ بَيْنَ مَنْصُورٍ وَمُنْخَذِلِ

وَيَأْخُذُونَ قَرِيبًا فِي مَعَايِشِهِمْ ** لا يَذْكُرونَكَ في خِلْوٍ وَمُحْتَفَلِ

يَا أَيُّهَا الغِرُّ لا تَغْرُرْكَ صُحْبَتُهُمْ ** خَيْرُ الْمَصَاحِبِ عِنْدي صَالِحُ العَمَلِ

فِيمَ التَّغَافُلُ وَالأَيَّامُ دَائِرَةٌ ** فِيمَ التَّكَاسُلْ وَالأَحْوَالُ في حِوَلِ

فِيمَ العَوِيلُ لَدَى دَارٍ خَلَتْ وَعَفَتْ ** فِيمَ البُكَاءُ عَلَى الآثَارِ وَالطُّلَل

وَفِيمَ التَّصَابِي وَأَيَّامُ الصِبَا غَبَرَتْ ** فِيمَ النَّسِيبُ وَلا إِبَانُ لِلْغَزَلِ

فَكَيْفَ تَلْعَبُ وَالْخَمْسُونَ قَدْ كَمُلَتْ ** وَكَيْفَ تَلْهُو وَنَارُ الشَّيْبِ في شُعَلِ

دَعْ ذِكْرَ لَيْلَى وَلُبْنَة وَازْدِيَادِهِمَا ** ثُم ارتَحِالهما من هَذِهِ الْحُلَلِ

تِلْكَ الْعَوَانِي وَإِنْ أَخْلَصْنَ خُلَّتَها ** وَاللهِ لَسْنَ بَرِيئَاتٍ مِنْ الدَّخَلِ

طحُبُّ الأَحِبَّةِ حُرْمَانٌ وَمَنْدَمَةٌ ** فَالْغُولُ عَاقَبَةٌٌ لِلشَّارِبِ الثَّمِلِ

يَا رَبِّ صَلِّ وَسَلِّمْ دَائِمًا أَبَدًا ** عَلَى نَبِيِّكَ طه سَيّدِ الرُّسُل

فصل:
قال أحد العلماء: لا يكن هم أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همه في إحكامه وإتقانه وتحسينه، فإن العبد قد يُصَلي وهو يَعْصِي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يَعْصِي الله في صيامه.
وقيل لآخر:
كيفَ أَصْبَحْتَ؟ فبكى، وقال: أصبحتُ في غَفْلَةٍ عَظِيمَةِ عن الموت مَعَ ذُنُوب كثيرة قد أحاطت بي، وأجلٌ يسرع كل يوم في عمري، ومَوْئِلِ لستُ أدري علامَا أهجم، ثم بكى.
وقال آخر:
لا تَغْتَم إلا مِن شيء يَضُرك غدًا أي في الآخرة، ولا تفرح بشيءٍ لا يَسُركَ غدًا، وأنفعُ الخوف ما حَجَزَكَ عن المعاصي، وأطال الْحُزْنَ مِنْكَ على ما فاتك من الطاعة، وَأَلْزَمَكَ الفِكْرَ في بَقِيةِ عُمرك.
وقال الآخر:
عليك بصحبة من تُذَكِّرُك الله عز وجل رُؤيَتُه، وتقع هَيْبَتُه على باطنك، ويزيُدُ في عَملك مَنْطِقُه، ويُزْهِدُكَ في الدُّنْيَا عَمله، ولا تعصي الله ما دُمْتَ في قُربه، يَعِظكَ بِلِسَانِ فِعْلِهِ ولا يَعِظُكَ بِلِسَانِ قَوْلِهِ.
قال إِسرافيل: حضرتُ ذي النون المصري وهو في الحبس وقد دَخل الشُرطي بطعام له، فقام ذُو النون فنفض يده، أي قبضها عن الطعام.
فقيل له: إن أخاك جَاءَ به فقال: إنه على يَدَيْ ظالم، قال: وسمعتُ رجلاً سأله ما الذي أتعبَ العبادَ وأضْعَفَهُم؟
فقال: ذكر المقام، وقلةُ الزاد، وخوفُ الحساب، ولم لا تذوبُ أبدانُ العمال وتذهلُ عُقولُهم، والعرضُ على الله جل وعلا أمامَهم، وقراءة كتبهم بين أيديهم.
والملائكة وقوفٌ بين يدي الجبار يَنْتَظِرونَ أَمْرَهُ في الأخبار والأشرار، ثم مَثَّلوا هذا في نفوسهم وَجَعَلُوه نُصْبَ أَعْيُنِهِم.
وقال: سَقَمُ الجسد في الأوجاع وسقم القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب.
وقال: مَن لم يعرف قدر النعم، سُلِبَهَا مِن حَيثُُ لا يعلم.
ما خلع الله على عبد خلعة أحسنَ ولا أشرفَ مِن العقل ولا قلده قلادة أجمل من العلم ولا زينه بزينة أفضل من الحلم وكمال ذلك التقوى.
وقال آخر:
أدركتُ أقوامًا يَسْتَحْيُونَ مِن الله في سَوادِ الليل مِن طُول الْهَجْعَةِ، إِنَّمَا هو على الجنب فإذا تَحَرَّك قال لنفسه: لَيْسَ لك قومي خُذِي حَظَّكِ مِن الآخِرَةِ.
وقال أبو هاشم الزاهد: إن الله عز وجل وَسَمَ الدنيا بالوحشة، ليكن أنْسُ المريدين به دونها، وليُقْبل المطيعُونَ له بالإعراض عنها، وأهْلُ المعرفة بالله فيها مُسْتَوْحِشُون، إلى الآخرة مُشْتَاقُون.
ونظر أبو هاشم إلى شريك القَاضي يَخْرجُ مِن دَارِ يحيى بن خالد فبكى وقال: أعوذ بالله من عِلْمٍ لا ينفع.
وقال أسود بن سالم: ركعتان أصليهما أحب إلي من الجنة بما فيها. فقيل له: هذا خطأ، فقال: دَعُونَا من كلامكم، رَأَيْتُ الْجَنَّةَ رضا نَفْسِي، وركعتين أصليهما رضا رَبي، ورضاء ربي أَحَبُّ إِليَّ مِن رضا نفْسِي، تأمل يا أخي دقَّةَ هذا الفهم لله دره.
وقال وهيب: الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس بينهُما حَرون، فإذا قادَ القائدُ ولن يَسُقِ السَّائِقُ لم يُغن ذلك شيئًا.
وإذا سَاقَ السائقُ ولم يقد القائد لم يغن ذلك شيئًا، وإذا قادَ القَائِدُ وساقَ السائقُ اتَّبَعَتْهُ النفسُ طوعًا وكرهًا وطابَ العملَ.
قال بعضهم يوبخ نفسه ويعظها: يا نَفْسُ بادري بالأوقاتِ قبل انصرامها، واجتهدِ في حراسة لَيَالي الحياة وأيامها، فكأنكِ بالقبور قد تشَقَّقَتْ وبالأمور وقد تَحَقَّقَت، وبوجوه المتقين وقد أشرقت، وبرؤوس العصاة وقد أطرقت، قال تعالى وتقدس: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}، يا نفس أما الوَرعُونَ فقد جَدُّوا، وأما الخائفون فقد استعدوا، وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا.
العلم لا يحصل إلا بالنصب والمال لا يجمع إلا بالتعب، أيها العبد الحريص على تخليص نفسه إن عزمت فبادر وإن هممت فثابر واعلم أنه لا يدرك العز والمفاخر من كان في الصف الآخر.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
قال ابن مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الصراطُ المستقيمُ، تَرَكَنَا مُحمدٌ في أَدْنَاهُ وَطَرَفُه في الْجَنَّةِ، وعن يمينه جَوَادٌ وثَمّ رجالٌ يدعونَ مَنَ مَرَّ بِهم، فمَن أخذَ في تلك الْجَوادِ انتهتْ به إلى النار، ومَن أخذ على الصِّراطِ انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} خرجه ابن جرير وغيره.
فالطريقُ الموصلُ إلى الله واحدٌ، وهو صراطهُ المستقيمُ، وبقيةُ السُّبُلِ كُلَّها سُبُل الشيطانِ، مَن سَلَكَها قَطَعَتْ بِهِ عن الله، وأوصَلَتْهُ دَارَ سَخَطِهِ وَغَضَبِهِ وَعِقَابِه، فربما سَلكَ الإنسانُ في أولِ أمرِهِ على الصراطِ المستقيم ثم يَنْحَرِفُ عَنه آخِرَ عُمُرِه فيسلكُ سُبُلَ الشيطانِ فيقطعُ عن الله فَيَهلكُ.
«إن أحدَكُم ليعملُ بعملِ أهل الجنةِ حتى ما يكونُ بينه وبينهَا إلا ذراعٌ أَوْ باعٌ فيعمُل بعملِ أَهل النار فَيَدخلُ النَّارَ». وربما سلكَ بالرجل أولاً بعض سُبُلِ الشيطَان ثم تُدركُه السعادةُ فيسلكُ الصراطَ المستقيمَ في آخر عُمُرِهِ فيصلُ به إلى الله.
والشأنُ كُلَّ الشأنِ في الاستقامةِ على الصراطِ المستقيمِ مِن أول السير إلى الله {ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ}، {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. ما أكثرَ مَن يَرْجِعُ أثناءَ الطريق وَيَنْقَطِعُ، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}.
خَلِيلِيَّ قُطَّاعٌ الطَّرِيقِ إِلى الْحِمَا ** كَثِيرٌ وَأَمَّا الوَاصِلُونَ قَلِيلُ

وفي الحديث الصحيح الإلهي القدسي يقول الله عز وجل: «مَن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَن تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَة».
وفي المسند زيادة: «والله أعلا وأجل، والله أعلا وأجل». وفيه أيضًا يقول الله: «ابنَ آدمَ قُمْ إِليَّ وَامْش إِليَّ أَهُرْوِلْ إِلَيْكَ».
فصل:
وقال رحمه الله: الوصولُ إلى الله نَوعان: أحَدُهما: في الدنيا، والثاني: في الآخِرَةِ. فأما الوصولُ الدنيويُ فالمَرادُ به: أن القلوبَ تصلِ إلى مَعْرفَتِهِ، فإذا عَرَفَتْهُ أحبته، وأنِسَتْ به فوجَدْتُه منها قريبًا وَلِدُعَائِها مُجيبًا، كَما في بعض الآثار: «ابنَ آدمَ اطلبني تجدني فإن وجَدتني وجدتُ كُلَّ شيءٍ، وإن فِتُكَ فَاتكَ كُلّ شيءٍ».
الصراطُ المستقيمُ في الدنيا يشتملُ على ثلاثِ درجاتٍ: درجةِ الإسلامِ، ودرجةِ الإيمان، ودرجةِ الإحسان. فمن سَلَكَ دَرَجَةَ الإِسلامِ إلى أن يَمُوتَ عليها مَنَّعتْهُ مِن الخلودِ في النارِ، ولم يَكُنْ له بُدُّ مِن دُخُولِ الجنة، وإن أصابَهُ قبلَ ذلكَ مَا أَصَابَهُ.
ومَن سَلَكَ على دَرَجَةِ الإيمانِ إلى أن يموتَ عليها مَنَعْتهُ مِن دخولِ النارِ بالكليةِ فإن الإيمانِ يُطْفِئُ لَهَبَ نارِ جهنم حتى تقولَ: يا مُؤْمَنُ جُزْ فَقَدْ أطفأ نُورُكَ لَهَبِي.
وفي المسند عن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مرفوعًا: «لا يَبْقى بَرٌ ولا فاجِرٌ إلا دَخَلها فتكونُ على المؤمنِ بَرْدًا وَسَلامًا كَمَا كانَتْ على إبراهيم، حَتَّى إن لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِن بَرْدِهِم، هذَا مِيرَاثٌ وَرِثَه المحبون مِن حَالِ أبِيهم إبراهيم عليه السلام».
ومَن سلك على درجة إحسان إلى أن يموت عليها وَصِلَ بعدَ الموتِ إلى الله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. وفي الحديث الصحيح: «إذَا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ نادَى: يا أهل الجنةِ إن لكم عند الله مَوعدًا يُريدُ أن يُنْجِزَكُمُوهُ. فيقولون ما هو: ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا؟. فوالله ما أعطاهُم الله شيئًا أَحَبَّ إليهم ولا أقرّ لأعينهم من النظر إليه، وهو الزيادةُ ثم تلا: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}».
كُلُّ أهلِ الجنةِ يَشْتَرِكُونَ في الرُّوَايةِ ولكن يَتَفَاوتُون في القُربِ في حال الرؤيةِ. عُمُومُ أهلِ الجنةِ يَرَوْنَ رَبَّهم يومَ المزيدِ وهو يوم الجمعة، وخواصُهم يَنْظُرونَ إلى وجه الله في كُلَّ يَوْمٍ مَرتَين بكرةً وعَشِيًا. العارفونَ لا يُسَلِّيهِم عن مَحْبُوبِهم قَصْرٌ ولا يُرْويهمِ دونَه نَهْرٌ.
وَيَرونَهُ سُبحانَهُ مِن فَوقِهم ** نَظَر العِيانِ كَمَا يُرَى القَمَرانِ

هذا تَواتَر عن رسولِ اللهِ لم ** يُنْكِرهُ إلا فَاسِدُ الإيمانِ

وأتى به القُرآنُ تَصْرِيحًا وَتَعْـ ** ـريضًا هُمَا بِسِياقِهِ نَوْعانِ

وَهِيَ الزيادةُ قَدْ أَتَتْ في يُونُسٍ ** تَفْسِيرَ مَنْ قَدْ جاءَ بالقرآن

وهو المزِيدُ كذاكَ فَسِّرِهُ أبو ** بَكرٍ هو الصديقُ ذُو الإيمان

وعليه أصحابُ الرسول تَتَابَعُوا ** هم بعدهم تَبِعِيّةَ الإحسان

وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فصل:
وفي المسند عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: «أن أَدنَى أَهلِ الجنةِ مَنزلةً لَيَنْظُرُ في مُلْكه أَلفَي سنة يَرى أقصاه كما يرى أدناه، يَنْظرُ إلى أَزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ، وَإِنْ أفضَلهُم مَنزلةً لمن يَنْظُرْ إلى وجْهِ الله تباركَ وَتَعالى كُلَّ يَومٍ مَرَّتين». وخرجه الترمذي ولفظه: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى أَزْوَاجِهِ ونَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ».
وأكرمُهم على الله من ينظرُ إلى وَجْههِ غُدْوَةً وَعَشِيًّا ثم قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}. ولهذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حديث جرير بن عَبْدِ اللهِ البَجَلي: «إنكم سَتَرونَ رَبَّكُم يومَ القيامة كما ترونَ القمرَ ليلةَ البدرِ لا تُضَامُونَ في رُؤْيَتِه»، قال: «فإن اسْتَطَعْتُم أَن لا تُغْلِبُوا على صلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشمسِ وَصَلاةٍ قَبْل غُروبِها فَافْعَلُوا»، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}.
ولما كان هذانِ الوَقْتَانِ في الجنة وقتان للرؤية في خواصِ أهلِ الجنةِ، خَصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على المحافظة على الصلاة في هذين الوقتين في الدنيا فَمَنْ حَافَظَ على هاتين الصلاتين في الدنيا في هذين الوقت وصلاهُما على أكمل وُجُوهِمَا وخُشُوعِهِمَا وَحُضُورِهما وأدَبِهِما فإنه يُرْجَى له أن يكونَ مِمَّن يَرَى الله في هذين الوقتين في الجنة، لاسيما إن حافظ بعدَهُما على الذكر وأنواعِ العِبادات حتى تطلعَ الشمسُ أو تغربَ.
فإنَ وَصَلَ العبدُ ذَلِكَ بدُلجةِ آخر الليلِ فَقَدْ اجتمعَ له السيرُ في الأوقات الثلاثة وهي: الدُلْجَةُ، والغَدوةُ، والرَّوْحَةُ، فيوشكُ أن يَعْقِبَه الصِدقُ في هذا السيرِ الوصول الأعظم إلى ما يطلبه في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
مَن لَزِمَ الصِّدق في طلبهِ أداهُ الصِّدْقُ إلى مَقْعَدِ الصِّدْق {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ}.
المحبُ لا يَقْطَعُ السؤالَ عَمَّنْ يُحِبُّ وَيَتَحَسَّس الأخبارَ وينْسِمُ الرِّيَاحَ وَيَسْتَدِلُ بآثار السلوكِ على الطريق إلى محبوبه.
لقد كَبُرتْ هِمَّةٌ الله مَطلوبُهَا وشرفَتْ نفسٌ الله مَحْبُوبُها {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}.
ما للمحبِ سوى إرادة حِبه ** إنّ المحبَّ بكُلِ بَرٍ يُصْرَعُ

قيمةُ كلِ امرئٍ ما يَطْلُبُ فَمَن كَانَ يَطْلُبُ الله فلا قِيمَةَ له من طَلَبَ الله فَهُو أَجَلّ مَنْ أن يُقَوَّمَ، ومن طَلَب غَيْرَهُ فهو أخَسُّ مِن أن يكونَ لهُ قِيمَة.
قال الشبلي: مَن ركن إلى الدُّنْيَا أحْرَقَتْهُ بِنَارِهَا فصارَ رمادًا تَذْرُوهُ الرياحُ، ومَن ركن إلى الآخرِة أحرقته بنورِها فصار سبيكةَ ذهبٍ ينتفعُ به، ومَن ركن إلى الله أحرقه نُورُ التوحيد فصارَ جَوْهَرًا لا قيمة لَهُ.
واللهُ أَعْلَم. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فصل:
في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} هذه الآية كانت تَشْتَدُ على الخائفين من العارفين فإنها تَقْتَضِي أن من العباد مَن يَبْدُو له عندَ لِقَاء الله ما لم يكن يحتسب، مثل أن يكون غافلاً عما بين يديه مُعْرِضًا غير مُلتفتٍ إليه ولا يَحْتِسِبُ له ولهذا قال عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لو أن لِي مُلْكَ الأرض لافتديتُ به مِن هَوْلِ المطلعِ.
وفي الحديث: «لا تمنوا الموتَ فإن هولَ المطلعِ شديد، وإن مِن سعادةِ المرءِ أن يطَولَ عُمره ويَرزقه الله الإنابة».
وقال بعضُ حكماء السلف: كم مَوقِفِ خِزيٍ يومَ القيامةِ لم يَخْطُر على بالك قط. ونظير هذا قوله تعالى: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.
واشتملَ على ما هو أعم مِن ذلك وهو أن يكون له أعمالٌ يرجو بها الخيرَ فتصيرُ هباءً منثورًا وتبدلُ سيئات وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
وقال: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً}.
وقال الفضيلُ في هذه الآية: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} قال: عملوا أعمالاً وحسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات. وقَرِيبٌ من هذا أن يعملَ الإنسانُ ذنبًا يَحْتَقِرُهُ وَيَسْتَهوِنُ به فيكون هو سَبَبَ هلاكِهِ. كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}.
وقال بعضُ الصحابةِ: إنكم تعملون أعمالاً هي في أعينكم أدقُ مِن الشعر، كنا نعهدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات، وأصعبُ مِن هذا من زُيّنَ له سوءُ عمله فرآه حسنًا. قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}.
قال ابن عيينة: لَمَّا حَضَرَتْ مُحمدَ بنَ المنكدر الوفاةُ جَزِعَ فَدَعُوا له أبا حازم فجاءَ فقال له: ابن المنكدر: إن الله يقول: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} فأخاف أن يبدوَ لي من الله ما أكن أحتسب. فجعلا يبكيان جميعًا. خرجه ابن أبي حاتم، وزاد ابن أبي الدنيا. فقال له أهله: دعوناك لتخفف عليه فزدته فأخبرهم بما قال.
وقال الفضيلُ بنُ عياض: أُخبِرتُ عن سليمان التيمي أنه قِيلَ له: أنتَ أنت ومن مثلك؟ فقال: مه لا تقولوا هذا لا أدري ما يَبْدُو لي من الله. سمعتُ الله يقول: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}.
وكان سفيان الثوري يقول عند هذه الآية: ويلٌ لأَهْلِ الرياء من هذه الآية، وهذا كما في حديث الثلاثة الذين هم أولُ من تَسُعّرُ بهم النار، العالم، والمتصدق، والمجاهد. وكذلك من عَمِل أعمالاً صالحةً وكانت عليه مظالمِ فهو يظن أن أعماله تنجيه فيبدو له ما لم يكن يحتسب، فيقتسمُ الغرماءُ أعماله كلّها ثم يفضلُ لهم فضلٌ فيطرحُ من سيئَاتهم عليه ثم يطرح في النار.
وقد يناقش الحساب فيطلب منه شكرُ النعم فتقوم أصغر النعم فتستوعب أعماله كلها وتبقى بقيةٌ فيطالب بشكرها فيعذب. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «مَن نوقش الحساب عذب أو هلك». وقد يكون له سيئات تحبط بعضَ أعماله أو أعمال جوارحه سوى التوحيد فيدخل النار.
وفي سنن ابن ماجة من رواية ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَجِيءُ بَأَعْمَالٍ أَمْثَال الجِبَالْ فَيَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُورًا». وَفِيهِ: «وَهُمِ قَومٌ مِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ وَلَكِّنَهُمْ قَومٌ إِذَا خَلُوا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهكُوهَا».
وَخَرَّجَ يَعْقُوبُ بنُ أبي شُعْبَةِ، وابنُ أبي الدُّنْيَا في حَدِيثِ سَالِمٍ مَوْلى أبي حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: «ليَجاءُ يَوْمَ القِيَامَةِ بَأَقْوَامٍ مَعَهُمْ مِن الْحَسَنَاتِ مِثْلُ جِبَالِ تِهَامَةَ حَتَّى إِذَا جِيءَ بِهِمْ جَعَلَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ هَبَاءً ثُمَّ أَكَبَّهُمْ في النَّارِ».
قال سَالِمٌ: خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مِنْهُمْ. فَقَالَ: «أَمَّا إِنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَأْخُذُونَ هُنَيْهةً من اللَّيْلِ، ولَعَلَّهُم كَانُوا إِذَا عَرَضَ لَهُمْ شَيْءٌ سِرًّا حَرَامًا أَخَذُوهُ فَأَدْحَضَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ». وَقَدْ يُحْبِطُ العَمَلُ بآفِةٍ مِنْ رِيَاءٍ خَفِيٍّ أَوْ عُجْبٍ بِهِ ونحوِ ذَلِكَ ولا يَشْعُرُ بهِ صَاحِبُه.
قال ضَيْغَمُ العابِدُ: إن لم تأتِ الآخرةُ بالسرور لقد اجتمع عليه الأمران: هَمُّ الدُّنْيَا، وشَقَاءُ الآخِرَة. فقيل له: كيفَ لا تأتيه الآخرة بالسرور وهو يتعبُ في دار الدنيا ويدَأب؟ قال: كيف بالقَبُول، كيف بالسلامة.
ثم قال: كم مِن رجل يَرى أنه قد أصلحَ عَمَلَهُ يُجمَعُ ذلك كلّه يومَ القيامة ثم يضربُ به وَجْهَهُ ومِن هنا كان عامر بن عبد قيس وغيره يقلقون مِن هذه الآية: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
وقال ابنُ عَون: لا تثق بكثرةِ العملِ، فإنك لا تَدْرِي يُقْبَلُ منكَ أم لا؟ ولا تأمن ذُنوبَك فإنك لا تَدري هَلْ كفّرتْ عنكَ أم لا؟ لأن عَمَلَكَ عنكَ مُغَيَّب كُلُه لا تَدْرِي ما الذي صَانِع به. وبكَى النَّخعي عندَ الموتِ وقال: أنتظرُ رَسُولَ رَبي ما أدري أيُبَشِّرُني بالجنة أو النار.
اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: دعا رجل فقال: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتدرون بما دعا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «والذي نفسي بيده لقد دعا باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سئل به أعطى». أخرجه أصحاب السُّنَن.
عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون إذْ دَعَى وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سُبْحَانكَ إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب له». رواه الترمذي، والنسائي، والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وعن معاوية بن أبي سُفيان قال: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن دَعَا بهؤلاء الكلمات الخمس لم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله». رواه الطبراني بإسناد حسن.
وعن معاذ بن جبل قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً وهو يقول: يا ذا الجلال والإكرام. فقال: «قد اسْتُجِيبَ لَكَ فَسَلْ». رواه الترمذي.
اللَّهُمَّ اجعلنا مُكْثِرينَ لِذِكرِك مُؤدِّينَ لِحَقِّك حافظين لأمرك راجين لِوَعْدِكَ راضين في جميع حالاتنا عَنك، راغبين في كُلِّ أمُورنا إليك مُؤمِّلِينَ لِفَضْلِك شاكرين لِنِعَمِك، يا مَن يحب العفو والإحسان، ويأمر بهما اعفُ عنا، وأحْسنْ إلينا، فإنكَ بالذي أنت له أهلٌ من عَفوك أحق منا بالذي نحن له أهل مِن عُقُوبتك.
اللَّهُمَّ ثَبّتْ رَجَاءَكَ في قلوبنا، واقطعه عَمَّنْ سِوَاك، حتى لا نَرْجُو غيرَكَ ولا نستعين إلا إياك، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللَّهُمَّ هب لنا اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عليك، والاستغناء عن خلقك، واجعل خير أعمالنا ما قارب آجالنا.
اللَّهُمَّ اغننا بما وفقتنا له من العلم، وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجَمِّلْنَا بالعافية.
اللَّهُمَّ افتح مَسَامِعَ قلوبنا لِذِكرك وارزُقْنا طاعتك وطاعةَ رسولك ووفقنا للعمل بكتابك وسنة رسولك.
اللَّهُمَّ إنا نسألك الهدى، والتُّقَى والعَافِيَةَ وَالغِنَى، ونعوذ بكَ مِن دَرَكِ الشقَاءِ ومن جهْدِ البَلاء ومن سُوءِ القَضَاء ومن شَمَاتَةِ الأعداء.
اللَّهُمَّ لك الْحَمْدُ كُلَّه، ولك الملك كُلَّه، وبِيدِكَ الخير كلّه، وإليك يَرْجِعُ الأمر كله عَلانِيتُه وسرِهُ، أهلُ الحمدِ والثناءِ أَنْتَ، لا إله إلا أنت سُبحانك إنك على كل شيء قدير.
اللَّهُمَّ اغفر لنا جميع ما سَلَف منا مِن الذنوب، واعْصِمْنَا فيما بَقى مِن أعمارنا، ووفقنا لِعَمَل صَالِحٍ تَرضَى به عنا.
اللَّهُمَّ يا سامعِ كل صوت ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا مَن لا تشتَبهُ عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، يا واضحِ البرهان، يا مَن هو كل يوم في شأن اغفر لنا ذنوبنا إنكَ أنت الغفور الرحيم.
اللَّهُمَّ يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام هب لنا العافية في الدنيا والآخرة.
اللَّهُمَّ يا حيُّ ويا قيُّوم فَرِّغْنَا لِمَا خَلَقْتَنَا له، ولا تُشْغِلْنَا بِمَا تَكَفَّلْتَ لنا به، واجعلنا مِمَّنْ يُؤمِنُ بِلِقَائِك، ويَرْضَى بقَضَائِك، ويقنعُ بعطائك، ويخشاكَ حَقَّ خَشْيَتِك.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَنَا رَغَدَا، ولا تشمِتْ بِنَا أحَدَا.
اللَّهُمَّ رَغِّبْنَا فيما يبقى، وزهدنا فيما يَفْنَى، هب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يُعَوَّلُ في الدين إلا عليه.
اللَّهُمَّ إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذَا المن والعطا والعز والكبرياء يا من تَعْنُوا له الوجُوه وتخشع له الأصوات، وفقنا لصالح الأعمال واكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير.
اللَّهُمَّ إنا نسألك رحمة من عندك تَهْدِي بها قُلُوبَنَا، وَتَجْمِعُ بها شَمْلَنَا، وتَلمُ بها شَعْثَنَا، وترفع بها شاهدنا، وتَحفَظُ بها غَائِبنًا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.
اللَّهُمَّ ارزقنا من فضلك، واكفنا شر خلقك، واحفظ علينا دِينَنَا وصحةَ أبداننا.
اللَّهُمَّ يا هادِي المضلين ويا راحم المذنبين، وَمُقِيل عثراتِ العاثرين، نسألك أن تُلْحِقْنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.
اللَّهُمَّ يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، ويا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير، نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين، وأَرْأفَ الرائفين وأكرمَ الأكرمين.
اللَّهُمَّ اعْتِقْنَا مِن رِقِّ الذُّنُوب وَخَلِّصْنَا مِن أَشَرِّ النُّفُوسْ، وَأَذْهِبْ عَنَّا وَحْشَةَ الإِسَاءَةْ، وَطَهِّرْنا مِن دَنَسِ الذنوب، وباعِدْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخَطَايَا وأجرْنا من الشيطان الرجيم.
اللَّهُمَّ طَيِّبْنَا لِلقَائِكَ، وأهِّلْنَا لِوَلائِكَ وَأَدْخِلْنَا مَعَ الْمَرْحُومِينَ مِن أَوْلِيَائِكَ، وَتَوفّنَا مُسْلِمِين وألحقنَا بالصالحين.
اللَّهُمَّ أعِنَّا على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبَادَتِكْ، وتِلاوَةِ كِتَابِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ حِزْبِكَ الْمُفْلِحِينَ، وَأَيِّدْنَا بِجُنْدِكَ المَنْصُورين، وارْزُقْنَا مُرافَقَةَ الذينَ أَنْعَمْتَ عليهم مِن النبيينَ والصِّدِيقين والشهداء والصَّالحين.
اللَّهُمَّ يا فالقَ الحب والنَّوَى، يا مُنْشِئ الأجْسَادِ بَعْدَ البلى يا مُؤْوي المنْقَطِعِينَ إليه، يا كافي المُتَوَكِّلينَ عليه، انقطَعَ الرَّجَاءُ إلا مِنْكَ، وخابَت الظُّنُون إلا فِيكْ، وضَعُفَ الاعْتِمَاد إلا عَلَيْكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُمْطِرَ مَحْل قُلُوبِنَا مِن سَحَائِبِ بِرِّكْ وإحْسَانِكَ وَأَنْ توفقنا لِموجِبَاتِ رحمتك وعَزَائِم مغفرتك إنكَ جواد كريم رؤوف غفور رحيم.
اللَّهُمَّ إنا نسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وعملاً متقبلاً، ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة، وشر الوفاة.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ باسْمِكَ الأَعْظَمَ الأَعَزَّ الأَجَلَّ الأَكْرمِ الذي إِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ وَإِذَا سُئِلْتَ بهِ أَعْطَيْتَ.
ونَسْأَلُكَ بِوَجْهِكَ الكَرِيمِ أَكْرَمَ الوُجُوه، يا من عَنَتْ لَهُ الوجُوهُ وَخَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ، وَخَشَعَتْ لَهُ الأَصْوَاتُ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإكْرَامِ.
يا حيُّ يَا قَيُّومُ، يا مَالكَ الملكِ، يَا مَنْ هُوَ على كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، وَبِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمِ لا إله إلا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ نَسْتَغِيثْ، ومِن عَذَابِكَ نَسْتَجِير.
اللَّهُمَّ اجعلنا نَخْشَاكَ حَتَّى كَأَننا نَرَاك وَأسعِدْنَا بِتَقْوَاك، ولا تُشْقِنَا بِمِعْصِيَتك.
اللَّهُمَّ إِنك تسمعُ كلامَنَا، وترى مَكاننا، وَتَعْلم سِرِّنَا وَعَلانِيتَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شيءٌ من أمرنا نحن البؤساءُ الفُقراءُ إليك، المُسْتَغِيثُون الْمُسْتَجِيرُونَ الوجلُونَ المشفقُونَ المعترفُون بِذُنُوبنا، نَسْأَلُك مَسألةَ المسكين، وَنَبْتَهلُ إليك ابْتِهَالَ الْمُذْنبِ الذَّليِل ِ، وَنَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِف الضرير.
اللَّهُمَّ يا مَن خَضَعَتْ لَهُ رقَابنَا، وفاضَتْ لَهُ عبَارَاتُنَا، وَذَلَّت له أَجْسَامُنَا، وَرَغِمَتْ له أُنُوفُنَا، لا تَجْعَلْنَا بِدُعَائِكَ أَشْقِيَاء، وكن بنا رؤوفًا يا خَير المَسْؤُلِين.
اللَّهُمَّ إنا نَسْأَلُكَ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، تُؤْمِنُ بِلِقَائِكْ وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ، وَتَقْنَعُ بِعَطَائِكَ، يا أرأف الرائفين، وأرحم الراحمين.
اللَّهُمَّ إنا نَسْأَلُكَ التوفيق لِمَا تُحِبُّه مِن الأعمال، ونسألُكَ صِدْقَ التوكلِ عليكْ، وَحُسْنَ الظَّنْ بِكَ يَا رَبَّ العَالمين.
اللَّهُمَّ اجعلنا من عِبَادِكَ الْمُخْبِتِينَ، الغُرِّ الْمُحَجَّلِين الوَفْدِ الْمُتَقَبلِين.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ حَيَاةً طَيِّبةً، وَنَفْسًا تَقِيَّةً، وَعِيشَةٍ نَقِيَّةً، وَمَيَّتَةً سَويَّةً، وَمَرَدًا غَيْرَ مُخْزِي وَلا فاضح.
اللَّهُمَّ اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين.
{اللَّهُمَّ مَالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تَشَاء وتُعِز مَن تشاء وتُذِلُ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيرُ إِنّكَ على كل شيءٍ قدير}.
يا وَدُودُ يَا ذَا العرش المجيد يا مُبْدِئُ يَا مُعِيدِ يَا فَعَّالٌ لِمَا تُرِيدِ نسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عَرشك وبقُدرتك التي قدرت بها على جميع خلقكَ وبرحمتك التي وسِعَت كل شيء لا إله إلا أنت أن تغفر ذنوبنَا وَسَيئاتِنَا وَأَنْ تبدلها لنا بحسنات إنك جوادٌ كريم رؤوفٌ رحيم.
اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
عبد العزيز بن محمد بن سلمان
تَزَوَّجَت البَطَالةُ بالتَّوانِي ** فَأَوْلَدَهَا غُلامًا مَع غُلامَهْ

فَأَمَّا الابْنُ سَمَّوْهُ بِفَقْرٍ ** وَأَمَّا البِنْتُ سَمَّوْهَا نَدَامَةْ

آخر:
أُقِلِّبُ كُتُبًا طَالَما قَدْ جَمَعْتُهَا ** وَأَفْنَيْتُ فيها العَيْنَ والعَيْنَ وَالْيَدَا

وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنٍ بِهَا وَتَمَسُّكٍ ** لِعِلْمِي بِمَا قَدْ صُغْتُ فِيهَا مُنْضَّدَا

وَأحْذَرُ جُهْدِي أَنْ تَنَالَ بِنَائِلٍ ** مَهِينٌ وَأَنْ يَغْتَالَهَا غَائِلُ الرَّدَى

وَاعْلَمْ حَقًّا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا ** فَيَالَيْتَ شِعْرِي مَنْ يُقَلِّبُهَا غَدَا

آخر:
نَصِيبكُ مِمَّا تَجْمَعَ الدَّهْرَ كُلَّهُ ** رِدَاءانِ تُلْوَى فِيمَا وَحُنُوطُ

آخر:
تَجرّدْ مِنَ الدُّنْيَا فإنّك إنّما ** خَرجْتَ إلى الدُّنيا وأنتَ مُجَرَّدُ

آخر:
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ** سِوَى حَنُوطٍ غَداةَ البَيْن في خِرَقِ

وَغَيْرَ نَفْحَةِ أعوادٍ تُشَبُّ لَهُ ** وقلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِق

ومن أراد طباعته ابتغاء وجه الله لا يريد به عرضًا من الدنيا فقد أُذِنَ له وجزى الله خيرًا من طبعه وقفًا أو أعان على طبعته أو تسبب لطبعه وتوزيعه على إخوانه من المسلمين فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله» الحديث رواه أبو داود، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعوا له». الحديث. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الجزء الأول: تَمَّ هَذَا الْجُزْءُ بِعَوْنِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ وَنَسْأَلُ اللهُ الْحَيَّ القَيَّومُ العَلِيُّ العَظِيمَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ الوَاحِد الفَرْدَ الصَّمَدَ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْوًا أَحَد أنْ يُعِزَّ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَخْذُلَ الكَفَرَةَ والْمُشْرِكِينَ وَأَعْوَانَهُمْ وَأَنْ يُصْلِحَ مَنْ في صلاحه صَلاحٌ لِلإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَيُهْلِكَ منْ في هَلاكِهِ عز وصلاح للإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَلُمَّ شَعَثِ الْمُسْلِمِينَ وَيَجْمَعَ شَمْلَهُمْ وَيُوَحِّدَ كَلِمَتَهُمْ وَأَنْ يَحْفَظَ بِلادَهُمْ وَيُصْلِحَ أَوْلادَهُمْ وَيَشْفِ مَرْضَاهُمْ وَيُعَافِي مُبْتَلاهُمْ وَيَرْحَمَ مَوْتَاهُمْ وَيَأْخُذَ بَأَيْدِينَا إِلى كُلِّ خَيْرٍ وَيَعْصِمَنَا وَإِيَّاهُمْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَيَحْفَظْنَا وَإِيَّاهم مِن كُلِّ ضُرٍ، وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
والله المسئول أن يجعل عملنا هذا خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعًا عامًا إنه سميع قريب مجيب على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثرًا.
عبد العزيز محمد السلمان
مَثِّلْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ ** يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُورُ

قَدْ كُوِّرَتْ شَمْسُ النَّهَارِ وَأُضْعِفَتْ ** حَرَّا عَلَى رُؤوسِ العِبَاد تَفُورُ

وَإِذَا الْجِبَالَ تَعَلّقَتْ بِأُصُولِهَا ** فَرَأََيْتَهَا مِثْلَ السَّحَابِ تَسِيرُ

وَإِذَا النُّجُومُ تَسَاقَطَتْ وَتَنَاثَرَتْ ** وَتَبَدَّلَتْ بَعْدَ الضِّيَاءِ كُدُورُ

وَإِذَا الْعِشَارُ تَعَطَّلَتْ عَنْ أَهْلِهَا ** خَلَتِ الدِّيَارُ فَمَا بِهَا مَعْمُورُ

وَإِذَا الْوُحُوشَ لَدَى القِيَامَةِ أُحْضِرَتْ ** وَتَقُولُ للأَمْلاكِ أَيْنَ نَسِيرُ

فَيُقَالُ سِيرُوا تَشْهَدُونَ فَضَائِحًا ** وَعَجَائِبًا قَدْ أُحْضِرَتْ وَأُمُورُ

وَإِذَا الْجَنِينُ بِأُمِّهِ مُتَعَلَّقٌ ** خَوْفَ الْحِسَابِ وَقَلْبُهُ مَذْعُورُ

هَذَا بِلا ذَنْبٍ يَخَافُ لِهَوْلِهِ ** كَيْفَ الْمُقِيمُ عَلَى الذُّنُوبِ دُهُورُ

وَخِتَامًا فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ اللَّبِيبِ أَنْ لا يُضَيِّعَ أَيَّامَ صِحَّتِهِ وَفَرَاغَ وَقْتِهِ بِالتَّقْصِيرِ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَأَنْ لا يَثِقَ بِسَالِفِ عَمَلٍ وَيَجْعَلَ الاجْتِهَادَ غَنِيمَةَ صِحَّتِهِ وَيَجْعَلَ العَمَلَ فُرْصَةَ فَرَاغِهِ. فَلَيْسَ الزَّمَانُ كُلُّهُ مُسْتَعِدًّا وَلا مَا فَاتَ مُسْتَدْرِكًا.
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وَصِيَّةٌ مُفِيدَةٌ جدًا.
مَنْ عَلِم قُرْبَ الرَّحِيل اسْتَكْثَر من كَلِمةِ الإِخْلاص لا إله إلا اللهُ، وَقِرَاءة القُرْآن، والاسْتِغْفَار، والبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، ولا إِله إلا اللهُ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ قَدْ جَاوَزَ خَمْسِينَ سَنَة، لأَنَّهُ قَدْ قَارَبَ سَاحِلَ الأَجَلْ بِعُلُوّ سِنِّه، وكذالَكَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ اللَّحَظَاتِ، وَيَنْتَظَرَ الْهَاجِمَ بِمَا يَصْلَحُ لَهُ فَقَدْ كَانَ في قَوْسِ الأَجَلَ مَنْزَع زَمَانِ الشَّبَاب، واسْتَرْخَى الوَتَرُ بِالمشيب عن سِيَّةِ القوس، فانْحَدَرَ القَلْب، وَضَعُفَتِ القُوَى أن يُوتِر، وَمَا بقي إلا الاسْتِسْلامُ لِمُحَارِبِ التَّلَف، فالبِدَارَ البِدَارَ إلى التَّنْظُف، وَلِيَكُون القُدُوم عَلى طَهَارِةَ، فَوَا أَسَفًا لِمهُدَّدَ بِالْمَوْتِ في كل لحظة كيْفَ يَغْفُلُ وَيَهْمِِلِ وَكَيْفَ يَطِيبُ عَيْشُهُ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وَقَفَ قَوْمٌ عَلَى عَالِم فَقَالُوا: إِنَا سَائِلُوكَ أَفَمُجِيبُنَا أَنْتَ؟ قَالَ: سَلُوا وَلا تُكْثِرُوا، فَإِنَّ النَّهَارَ لَنْ يَرْجِعَ وَالْعُمُرَ لَنْ يَعُودَ، وَالطَّالِبَ حَثِيثٌ فِي طَلَبِهِ. قَالُوا: فَأَوْصِنَا. قَالَ: تَزَوَّدُوا عَلَى قَدْرِ سَفَرِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّاد مَا أَبْلَغَ الْبُغْيَةَ. ثُمَّ قَالَ: الأَيَّامُ صَحَائِفُ الأَعْمَارِ فَخَلّدُوهَا أَحْسَنَ الأَعْمَال، فَإِنَّ الْفُرَصَ تَمُرُّ مَرَّ السَحَابِ، والتَّوَانِي مِنْ أَخْلاقَ الْكُسَالَى وَالْخَوَالِفِ، وَمَنِ اسْتَوْطَنَ مَرْكَبَ الْعَجْزِ عَثَرَ بِهِ. وَتَزَوَّجَ التَّوَانِي بِالْكَسَلِ فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا الْخُسْرَانُ. اهـ. قَالَ بَعْضُهُمْ:
تَزَوَّجَتِ الْبَطَالَةَ بالتَّوَانِي ** فَأَوْلَدَهَا غُلامًا مَعَ غُلامِهْ

فَأَمَّا الابْن سَمُّوه بِفَقْرٍ ** وَأَمَّا الْبِنْت سَمُّوهَا نَدَامَة

آخر:
يَا سَاكَنَ الدُّنْيَا تَأَهْبْ ** وَانْتَظِرْ يَوْمَ الْفُرَاقِ

وَأَعَدَّ زَادًا لِلرَحِيلِ ** فَسَوْفَ يُحْدَى بِالرِّفَاقِ

وَابْكِ الذُّنُوبَ بِأَدْمُعٍْ ** تَنْهَلْ مِنْ سَحب الْمَآقِ

يَا مَنْ أَضَاعَ زَمَانَهُ ** أَرَضِيتَ مَا يَفْنَى بِبَاقٍ

آخر:
أُقَلِّبُ كَُتْبًا طَالَمَا قَدْ جَمَعْتُهَا ** وَأَفْنَيْتُ فِيهَا الْعَيْن وَالْعَيْن وَالْيَدَا

وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنٍ بِهَا وَتَسَمَّكٍ ** لِعِلْمِي بِمَا قَدْ صُغْتُ فَيهَا مُنَضَّدَا

واحْذَرْ جهدي أَنْ تَنَالَ بِنَائِلٍ ** مهِين وَأََنْ يُغتالها غائل الردى

واعْلَمْ حَقًّا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا ** فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ يقلبها غَدًا

الْمُرَاقَبَةُ فِي ثَلاثَةِ أَشْيَاءٍ: مُرَاقَبَةُ اللهِ فِي طَاعَته بِالْعَمَل الَّذِي يُرْضِيه، وَمُرَاقَبَةُ اللهِ عِنْدَ وُرُودِ الْمَعْصِيةِ بِتَرْكِهَا، وَمُرَاقَبَةُ اللهِ فِي الْهَمِّ وَالْخَوَاطِرِ وَالسِّرّ وَالإِعْلانِ. قَالَ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
(1)
الليْل والنَّهَارَ يَعْمَلانِ فِيكَ فَاعْمِلْ فِيهِمِا أِعْمَالاً صَالِحَة تَرْبَحُ وَتُحْمَدُ الْعَاقِبَة الْحَمِيدَة إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَلَيْلُكَ شَطْرُ عُمرك فَاغْتَنِمْهُ ** وَلا تَذْهَبْ بِشَطْرِ الْعُمُرِ نَوْمًا

آخر:
يُحْيِي الليَالِي إِذَا الْْمَغْرُور أَغْفَلَهَا ** كَانَ شُهْبَ الدَّيَاجِي أَعْيُنٌ نُجلُ

(2)
الْمَلائِكَة يَكْتُبَان مَا تَلْفِظُ بِهِ فَاحْرِصْ عَلَى أَنْ لا تَنْطِق إِلا بِمَا يَسُرُّكَ يَوْم الْقِيامَةِ. أَشْرَفُ الأَشْيَاءِ قَلْبُكَ، وَوَقْتُكَ، فَإَذَا أَهْمَلْتَ قَلْبَكَ وَضَيْعَتَ وَقْتَكَ فَمَاذَا يَبْقَى مَعَكَ كُلُّ الْفَوَائِدِ ذَهَبَتْ، وَقْتُ الإِنْسِانَ هُوَ عُمُرهُ وَمَادَة حَيَاتِهِ الأَبَدِيّة فِي النَّعِيم الْمُقِيمِ وَمَادَة الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ فِي الْعَذَابِ الأَلِيمِ وَهُوَ يَمُر مَرَّ السَّحَاب.
(3)
اعْلَمْ أَنَّ قِصَرَ الأَمَلِ عَلَيْهِ مَدَارٌ عَظِيم وَحِصْن الأَمَلِ ذِكْرُ الْمَوْتَ وَحِصْنُ حِصْنِهِ ذِكْرُ فَجْأَة الْمَوْت وأَخْذ الإِنْسَان عَلَى غِرّة وَغَفْلَة وَهُوَ فِي غُرُورٍ وَفُتُورٍ عَنْ الْعَمَل لِلآخِرَةِ. نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوقِظَ قُلُوبَنَا إَِنَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٍ، اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وسلم.
إِذَا شَامَ الْفَتَى بَرْقَ المْعَالِي ** فَأَهْوَن فَائِتٍ طِيبُ الرُّقَاد

آخر:
وَبَادِر الليل بِدَرْسِ الْعُلُوم ** فِإِنَّمَا الليل نَهَارُ الأَرِيب

قَالَ بَعْضُهُمْ:
بَلَوْتُ الطِّيبَاتِ فَلَمْ أَجِدْهَا ** تَفِي ِبِالْعُشْرِ مِنْ طِيبِ الْعُلُومِ

وَنَادَمْتُ الْصِحَابَ وَنَادَمُونِي ** فَمَا بِالْكُتَبِ عِنْدِي مِنْ نَدِيمٍ

وَلَمْ أَرَى فِي كُنُوزِ النَّاس ذُخْرًا ** كَمِثْلَ مَوَدَةَ الْحُرِّ الْكَرِيم

مُلاحَظَة: لا يُسْمَح لأَيِ إِنْسَانٍ أَنْ يَخْتَصَرُهُ أَوْ يَتَعَرَض لَهُ بِمَا يُسَمُونَهُ تَحْقِيقًا لأَنَّ الاخْتِصَارَ سَبَبٌ لِتَعْطِيلِ الأَصْلِ. وَالتَّحْقِيقَ أَرَى أَنَّهُ اتِّهَامٌ لِلْمُؤَلِفِ، وَلا يُطْبَعُ إِلا وَقْفًا للهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَنْتَفَعَ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِين.
فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ النَّفْع لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ:
مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ عَرَّفَهُ لا إله إلا الله، وَفَهَّمَهُ مَعْنَاهَا، وَوَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا.
الذِّكْرُ أَصْدَقُ قَوْلٍ فَافهَمْ الْخَبَرَا ** لأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ قَدْ أَنْشَأَ الْبَشَرَا

فَاعْمَلْ بِهِ إِنْ تُرِدْ فَهَمًا وَمَعْرِفَةً ** يَا ذَا الْنُهَى كَيْ تَنَالَ الْعِزَّ وَالْفَخْرَا

وِتَحْمِدَ اللهَ فِي يَوْمِ الْمِعَادَ إِذَا ** جَاءَ الْحِسَابُ وَعَمَّ الْخَوْفُ وَانتَشَرَا

للهِ دَرُ رِجَالٍ عَامِلين بِهِ ** يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ وَاشْتَهَرَا

آخر:
جَمِيعُ الْكُتُبِ يُدْرِكُ مَنْ قَرَاهَا ** مِلالٌ أَوْ فُتُورٌ أَوْ سَآمَه

سِوَى الْقُرْآن فافهم واستمَعْ لي ** وقول المصطفى يَا ذَا الشَّهَامَة

آخر:
صَافي الْكَرِيمَ فَخَيْرُ مَنْ صَافَيْتُهُ ** مَنْ كَانَ ذَا دِينٍ وَكَانَ عَفِيفًا

فَصْل:
وَمَنْ أَرَادَ بطاعَتِه ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى لا يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، فَقَدْ أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَجَزَى اللهُ خَيْرًا مَنْ طَبَعَهُ وَقْفًا للهِ، أَوْ أَعَانَ عَلَى طَبْعِهِ، أَوْ تَسَبَّبَ لِطَبْعِهِ وَتَوْزِيعِهِ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِين، فَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يُدْخَلُ فِي السَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاثَة نَفَرٍ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ وَالرَّامِي بِهِ، وَمُنْبِلِهِ». الْحَدِيث رَوَاهُ أَبُو داود.
وَوَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلَهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَد صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». الْحَدِيث. رَوَاهُ مُسْلِم.
وَعَنْ زَيْدِ بِنْ خَالِدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ جَهَزَّ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَّفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ أَوَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ أَوْ بَيْتًا لِابْنِ سَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَابْنُ خُزَيْمَة.
وَرَوَاهُ الْبَزَارُ مِنْ حَدِيثِ أَنَس إِلا أَنَّهُ قَالَ: «سبع تجري للعبد بعد موته وَهُوَ فِي قبره: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا أَوْ كَرَى نَهْرًا أَوْ حفر بِئْرًا أَوْ غَرَسَ نَخْلاً أَوْ بَنَى مَسْجِدًا أَوْ وَرَثَّ مُصْحَفًا أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ».
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّوم يَا عَلِيٌّ يَا عَظِيم يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ يَا نُورِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، إِنَّكَ تَفَضَّلْتَ عَلَيْنَا وَأَعْطَيْتَنَا الإِسْلامَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَسْأَلُكَ فَلا تَحْرِمْنَا الْجَنَّة وَنَحْنُ نَسْأَلُكَ، اللَّهُمَّ صَلى على مُحَمَّدٍ وآله وَصَحْبِهِ وَسَلّم.
فصل فِي الْوَعْظ وَالإِرْشَاد:
اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِين لِمَا يُحِبَّهُ وَيَرْضَاهُ أَنْ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ عَمَلُ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِين صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهمْ أَجْمَعِين، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ نُوَّابُ عَنِ الأَنْبِيَاءِ فِي هَذَا الأَمْر الْخَطِيرِ فَهُمْ أُمَنَاءُ اللهِ عَلَى شَرْعِهِ وَالْحَافِظُونَ لِدِينِهِ الْقَويِمِ وَالْقَائِمُونَ عَلَى حُدُود اللهِ وَالْعَارِفُونَ بِمَا يَجِبُ للهِ مِنْ كَمَالٍ وَتَنْزِيهٍ.
لِذَلِكَ كَانَ أَئِمَّة الْمُسْلِمِين المْخُلِصُونَ فِي أَعْمَالُهُمْ الصَّادِقُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ الْبَعِيدُونَ عَنْ الرِّيَاءِ وَحَبِّ الشُّهْرَة وَالْمَدْحِ يَسِيرُونَ بِالْخَلْقِ نَحْوَ سَعَادَتِهِمْ بِمَا يُعَلِّمُونَهُمْ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ وَبِمَا يُرْشِدُونَهُمْ إِلِيْهِ مِنَ التَّحَلِّي بِالْفَضِيلَةِ والتَّخَلِّي عَنْ الرَّذِيلَةِ وَاعْتَقَدَ النَّاسُ فِيهِمْ ذَلِكَ وَأَمّلُوهُمْ لَهُ فَأَحَلُّوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَحَلاً لَمْ يَبْلُغْهُ سِوَاهُمْ مِنَ الْبَشَرِ حَتَّى اكْتَسَبُوا فِي قُلُوبِهِمْ مَكَانَةً يُغْبَطُونَ عَلَيْهَا وَرَبَحُوا مَنْزِلَةً تَصْبُوا إِلَيْهَا نُفُوسِ ذَوِي الْهِمَّةِ الْعَالِيةِ وَالْفَضْلِ.
وَنَاهِيكَ بِقَوْمِ إِذَا فَعَلُوا لَحَظَتْهُمْ الْعُيُونُ وَإِذَا قَالُوا: أَصْغت الآذَان وَوَعَتِ الْقُلُوب وَحَكَتِ الأَلْسُن فَهُمْ مَطْمَح الأُنْظَار وَمَوْضع الثَّقَةِ والْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ وَالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ وَالنُّورِ السَّاطِعِ، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
مَحَاسِنُ أَصْنَافِ الدُّعَاةِ كَثَيرَةٌ ** وَمَا قَصَبَاتُ السَّبْقِ إِلا لأحمد

آخر:
لا يُدْرِكُ الْمَجْدَ إِلا مُخْلِص وَرِع ** كَثَير ذِكْرِ لِخَلاقِ السَّمَاوَات

مُتَابِعٌ لِرَسُول اللهِ دَيْدَنَهُ ** تِلاوَة الذِّكْرِ مَعَ حِفْظٍ لأَوْقَاتٍ

آخر:
وَأَحْسَنُ مُقْرُونِينَ فِي لَفْظٍ نَاطِقٍ ** ثَنَاء عَلَى رَبِّ الْعِبَادِ وَشُكْرِه

الْمَعْنَى لا أَحَد أَحْسَنُ كَلامًا وَطَرِيقَةً وَحَالَةً مِمَنْ دَعَا النَّاسَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُلِهِ وَذَلِكَ بِتَعْلِيمِ جَاهِلِيهُمْ وَوَعَظَ غَافِلَهُمْ وَنَصْحِ مُعْرِضْهُمْ وَمُجَادَلَةِ مُبْطِلِهِمْ بِالأَمْر بِعِبَادَةِ اللهِ بِجَمَيعَ أَنْوَاعِهَا وَالْحَثِ عَلَيْهَا وَتَحْسِينِهَا وَتَحْبِيبِهَا مَهْمَا أَمْكَن وَالزَّجْرِ عَمَّا نَهَى اللهُ وَرَسُولِهِ عَنْهُ وَتَقْبِيحِهِ وَالتَّحْذِير مِنْهُ بِكِلِ وَسِيلَةٍ وَطَرِيقَةٍ تُوجِبُ تَرْكِهِ.
وَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا تَلا هَذِهِ الآيَةِ يَقُولُ: هَذَا حَبِيبُ اللهِ، هَذَا وَلِيُّ اللهِ، هَذَا صَفْوَةِ اللهِ، هَذَا خَيْرَةُ اللهِ، هَذَا أَحَبُّ أَهْلِ الأَرْضِ إِلَى اللهِ، أَجَابَ اللهَ فِي دَعْوَتِهِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى مَا أَجَابَ فِيهِ مِنْ دَعْوَتِهِ، وَعَمَلٍ صَالِحًا فِي إِجَابَتِهِ.
وقَالَ فِي هِدَاية الْمُرْشِدِينَ: إِنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ عَلَى الدَّاعِيَ الْعِلْمُ بِالْقُرَآنِ وَالْمُرَادُ بِالنَّظَرِ قَبْل كُلّ شَيْء عَلَى كَوْنِهِ هُدًى وَمَوْعِظَةً وَعِبْرَةٍ.
وَكَذَلِكَ السُّنَّةِ وَمَا صَحَّ مِنْ أَقْوَالِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَسِيرَتِهِ وَسِيرَةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحُ وَبِالْقَدْرِ الْكَافِي مِنْ الأَحْكَامِ وَأَسْرَارِ التَّشْرِيعِ مَعَ الصِّدْقِ فِي نَشْرِهَا فَإِنَّ مَرْتَبَتِه التَّبْلِيغُ عَنْ اللهِ لَمْ تَكُنْ إِلا لِمَنِ اتَّصَفَ بِالْعِلْمِ مَعَ الصِّدْقِ.
وَالْمُرْشِدُ وَارِثُ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَلِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَعْلِيمِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ فَلا يَزِيغُ فِي عَقِيدَتِهِ وَلا يَعْجِرُ عَنْ إِقْنَاعِ النُّفُوسِ الْمُتَطَلِّعَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ أَسْرَارِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَكُونُ الإِذْعَانُ لَهُ أَتَمُ وَالْقُبُولِ مِنْهُ أَكْمَلُ.
فَأَمَّا الْجَاهِلَ فَضَالٌّ مُضِلٌّ وَضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، وَمَا يُفْسِدُهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ إِذْ لا تَمْيِيزَ لِجَاهِلٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَلا مَعْرِفَةَ عِنْدَهُ تَرْشُدُ إِلَى إِصْلاحِ الْقُلُوبِ وَتَهْذِيبِ النُّفُوسِ.
رَيَاسَاتِ الرَّجَالِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ** وَلا تَقْوَى الإِلَهِ هِي الْخَسَاسَة

آخر:
وَكُل رِئَاسَةٍ فِي جَنْبِ جَهْل ** أَحَطُ من الْجلوس على الكناسة

وَأَشْرَفُ مَنْزِلٍ وَأَعَزُّ عِزٍّ ** وَخَيْرُ رِيَاسَةٍ تَرْكِ الرِّيَاسَة

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصَرِىُّ رَحِمَهُ اللهُ: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، وَفِي الْحِكَمِ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ ضَلَّ، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِغَيْرِ أَصْلٍ زّلَّ.
وَأَمَّا الْكَاذِبُ فَلا خَيْرِ فِيهِ وَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ عَلَى اللهِ، لِهَذَا حَرَّمَ اللهُ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلا عِلْمٍ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَفْحَشِ الْكَبَائِرِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
وَهَذَا يَعُمُّ الْقَوْلَ عَلَى اللهِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَذَاتِه وَأَفْعَالِهِ وَفِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ. وقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الدَّاعِيَ الْعَمَلُ بِعِلْمِهِ فَلا يُكَذِّبُ فِعْلَهُ قَوْلُهُ، وَلا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَ بَاطِنَهُ، فَلا يَأْمُرُ بِشَيْء إِلا وَيَكُونُ أَوْلَ عَامِلٍ بِهِ، وَلا يَنْهَى عَنْ شَيْء إِلا وَيَكُون أَوْلُ تَارِكٍ لَهُ، لِيَفِيدَ وَعْظِهِ وَإِرْشَادِهِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَلا يَفْعَلُهُ وَيَنْهَى عَنْ الشَّرِّ وَهَوَ وَاقِعٌ فِيهِ، فَهُوَ بِحَالِهِ عَقَبَةٌ فِي سَبِيلِ الإِصْلاحِ، وَهَيْهَاتَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، فَإِنَّهُ فَاقِدُ الرُّشْدِ فِي نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَرْشُدُ غَيْرَهُ.
الْعِلْمُ فِي شَرْطِهِ لِِمَنْ حَصَّلَهُ ** أَنْ يَحْمِدَ اللهَ وَيَعْمَلَ بِه

آخر:
يَا آمِرَ النَّاسِ بِالْمَعْرُوفِ مُجْتَهِدًا ** إِنْ رَأَى عَامِلاً بِالْمُنْكَرِ انْتَهَرَهُ

ابْدَأْ بِنَفْسِكَ قَبْلَ النَّاسِ كُلَهُمْ ** فَأَوْصِهَا وَاتْلُ مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَة

قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنَ التَّالِينَ لِكِتِابِكَ الْعَامِلِينَ بِهِ الْمُحِلِّلِينَ حَلالَهُ الْمُحَرْمِينَ حَرَامَهُ الْمُمْتَثِلِينَ لأَوَامِرِهِ الْمُجْتَنِبِينَ نَوَاهِيهِ الْمُتَعِظِينَ بِمَوَاعِظِهِ الْمُنْزَجِرِينَ بِزَوَاجِرِهِ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي مَعَانِيهِ الْمُتَدَبِّرِينَ لأَلْفَاظِهِ الْبَاكِينَ الْمُقَشْعِرينَ عِنْدَ تِلاوَتِه وَسَمَاعِهِ.
واغْفِر لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأَحْيَاء مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْل:
قَالَ مَالِكُ بِن دِينَارٍ: إِنَّ الْعَالِمَ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ زَلَتْ مَوْعِظَتِهِ عَنْ الْقُلُوبَ كَمَا يَزِلُ الْقَطْرُ عَنْ الصَّفَا فَإِنَّ مَنْ حَثَّ عَلَى التَّحَلِّي بِفَضِيلَةٍ، وَهَوَ عَاطِلٌ مَنْهَا، لا يُقْبَلْ قَوْلُهُ، كَمَنْ يَحُثُّ النَّاسَ عَلَى الْحِلْمِ وَالصَّبْرِ وَالْكَرَمِ وَهُوَ بِضِدِّ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ يَنْهَى عَنْ الأَخْلاقِ السَّاقِطَةِ وَالْبِدَعِ وَالْمَلاهِي وَهَوَ مُتَلَوِّثُ بِهَا كَمَنْ يَنْهَى عَنْ الدُّخَانِ أَبِي الْخَبَائِثِ وَالْخَمْرِ أُمِّ الْخَبَائِثِ وِهُوَ يَشْرَبُهُمَا، وَكَمَنْ يَأْمُرُ بِالابْتِعَادِ عَنْ التلفزيون وَالْمِذْيَاعِ وَالسِّينمَاءِ وَالْبَكْمَاتِ، وَهُوَ يَشْتَرِيهَا أَوْ يَحْظُرُهَا.
وَكَمَنْ يَنْهَى عَنْ حَلْقِ اللِّحْيَةِ وَالْخَنَافِسِ وَالتَّشَبُهِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُرْدِ وَالْكُفَّارِ وَهُوَ مُتَلَبِّسُ بِهَا، وَكَمَنْ يَنْهَى عَنْ الْكُورَةِ وَهُوَ يَحْضَرُهَا، أَوْ يَنْهَى عَنْ بَيْعِ هَذِهِ الْمَلاهِي وَشِرَائِهَا وَتَصْلِيحِهَا وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَهَذَا يُقَابِلُ قَوْلُهُ بِالرَّدِ، وَلا يُعَامِلُ إِلا بِالإِعْرَاضِ، وِالإِهْمَالِ، بَلْ مَحَلُ سُخْرِيَةِ، وَاسْتِهْزَاءِ فِي نَظَرِ الْعُقَلاءِ.
وَأَخْسَرُ النَّاسِ سَعْيًا مَنْ قَضَى عُمُرًا ** فِي غَيْرِ طَاعَةِ مَنْ أَنْشَاهُ مِنْ عَدَمٍ

آخر:
سَلِ الإِلَهَ إِذَا نَابَتْكَ نَائِبَةٍ ** فَهُوَ الَّذِي يُرْتَجَى مِنْ عِنْدِهِ الأَمَلُ

فَإِنْ مَنَحْتَ فَلا مَنّ وَلا كَدَرٌ ** وَإِنْ رَدَدْتَ فَلا ذُلٌّ وَلا خَجَلُ

قَوْلٌ جَمِيلٌ وَأَفْعَالٌ مُقَبَّحَةٌ ** يَا بُعْدَ مَا بَيْنَ ذَاكَ الْقَوْلِ وَالْعَمَل

فَإِنَّ مَنْ تَنَاوَلَ شَيْئًا فَأَكْلُهُ وَقَالَ للناسِ: لا تُنَاوِلُوهُ، فَإِنَّهُ سُمٌّ مُهْلِكٌ سَخِرَ النَّاس مِنْهُ، واستهزؤا بِه وَاتَّهَمُوهُ فِي دِينِِهِ وَعِلْمِهِ وَوَرَعِهِ، وَكَأَنَّهُ بِزَجْرِهِ وَنَهْيهِ حَرَّضَهُمْ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ لَوْلا أَنَّهُ لَذِيذٌ مَا كَانَ يَسْتَأْثِرُ بِهِ.
كَذَلِكَ الدَّاعِي إِذَا خَالَفَ فِعْلَهُ قَوْلَهُ، أَمَّا الائْتِمَار بِمَا سَيَأْمُرُهُمْ بِهِ أَوْلاً، وَالتَّخَلُّقُ بِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فَهُوَ وَاقِعٌ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ، وَأَقْرَبُ إِلَى إِذْعَانِ الرَّاغِبِينَ.
فَمَنْ لَمْ يُكَابِدْ قِيَامَ الليلِ وَسَهَرِهِ، فَكَيْفَ يُسْمَعُ مِنْهُ فَضْلَ قِيَامِ الليلِ، وَكَمَنْ يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْمُشَارَكَةِ فِي الأَعْمَالِ الْخَيْرِيْةِ وَالْمَشَارِيعِ الدِّينِيَّةِ، وَلا يُسَاهِمُ فِيهَا أَبَدًا، فَهَذَا لا يَقْبَلُ قَوْلُهُ، وَيَكُونُ مِمَّنْ يُعِينَ عَلَى سَبِّهِ، وَغِيبَتِهِ، لِمَا عَرِفْتَ مِنْ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى صَالِحِ الأَعْمَالِ وَمَكَارِمِ الأَخْلاقِ تَرْبِيَة، وَالتَّرْبِيَة النَّافِعَة إِنَّمَا تَكُون بِالْعَمَل، لأنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ وَالأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ، لا بُمُجَرَّدِ الْقَوْلِ.
يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ الْمُسَوِّرِ بِنْ مخرمةِ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلُقُوا». فوَاللهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَة فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ.
فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: يَا نَبِيَّ اللهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ، أَخْرَجَ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ حَتَّى تَنْحِرَ بُدَنَكَ وَتَدْعُو حَالِقَكَ فَيَحْلِقُكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدَنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ يَقْتِلُ بَعْضهُمْ بَعْضًا أَيْ ازْدِحَامًا وَغَمًّا.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَهْرٍ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَالنَّاسُ صِيَامٌ فِي يَوْمِ صَائِفٍ مُشَاةٌ وَنَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ فَقَالَ: «اشْرَبُوا أَيُّهَا النَّاسُ». قَالَ: فأبوا. قَالَ: «إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَيْسَرُكُمْ إِنِّي رَاكِبٌ». فَأَبَوا، فَثَنَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَخْذَهُ فَنَزَلَ فَشَرِبَ وَشَرِبَ النَّاسُ، وَمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَشْرَبَ... رَوَاهُ أحمد.
قَالَ: فَإَذَا لَمْ يَكُنْ الدَّاعِي إِلا ذَا قَوْلٍ مُجَرَّدٍ مِنَ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الْمَدْعُو مِنْهُ إِلا الْقَوْلَ، وَأَيْضًا فَمِثْل الْمُرْشِدِ مِنَ الْمُسْتَرْشِدِ مِثْل الْعُودِ مِنَ الظِلِّ، فَكَمَا أَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَعْوَجَّ الْعُودُ وَيَسْتَقِيمَ الظِلُّ كَذَلِكَ مُحَالٌ أَنْ يَعْوَجَّ الْمُرْشِدُ وَيَسْتَقِيمَ الْمُسْتَرْشِدُ.
قَالَ الْغَزَالِي فِيمَا كَتَبَهُ إِلَى أَبِي حَامِدٍ أحمد بِنْ سَلامَة بِالْمُوصَلِ: أَمَّا الْوَعْظُ فَلَسْتُ أَرَى نَفْسِي أَهْلاً لأَنَّ الْوَاعِظَ زَكَاةُ نِصَابِهِ الاتِّعَاظ فَمَنْ لا نِصَابَ لَهُ كَيْفَ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ وَفَاقِدُ النُّورِ كَيْفَ يَسْتَنِيرُ بِهِ غَيْرُهُ وَمَتَى يَسْتَقِيمُ الظِلُّ وَالْعُودُ أَعْوَجُ وَلِهَذَا قِيلَ:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ ** هَلا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيم

تَصِف الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ مِنَ الضِّنَا ** كَيْمَا يَصِحُ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمٌ

مَا زِلْتَ تَلْقِحُ بِالرَّشَادَ عُقُولَنَا ** عِظْتَ وَأَنْتَ مِنَ الرَّشَادِ عَدِيمٌ

ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهِهَا عَنْ غَيِّهَا ** فَإَذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمٌ

فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى ** بِالرَّأْيِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ

لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِي مِثْلَهُ ** عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمٌ

آخر:
وَكُنْ نَاصِحًا للمُسْلِمِينَ جَمِيعُهُمْ ** بِإِرْشَادِهِمْ للحَقِّ عِنْدَ خَفَائِهِ

وَمُرْهُمْ بِمَعْرُوفِ الشَّرِيعَةِ وَانْهِهِمْ ** عَنْ السُّوءِ وَازْجُرْ ذَا الخَنَا عَنْ خَنَائِهِ

وَعِظْهُمْ بِآيَاتِ الإِلَهِ بِحِكْمَةٍ ** لَعَلَّكَ تُبْرِي دَاءَهُمْ بِدَوَائِهِ

فَإِنْ يَهْدِ مَوْلانَا بِوَعْظِكَ وَاحِدًا ** تَنَلْ مِنْهُ يَوْمَ الْحَشْرِ خَيْرَ عَطَائِهِ

وَإِلا فَقَدْ أَدَيْتَ مَا كَانَ وَاجِبًا ** عَلَيْكَ وَمَا مَلَكْتَ أَمْرَ اهْتِدَائِه

قَالَ وَقَوْلُ اللهُِ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} تَعْجَبُ لِلْعُقَلاءِ مِنْ هَذَا الْمَسْلَكِ الْمَعِيبِ، وَلِلْتَعَجُّبِ وُجُوهٌ مَنْهَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إِرْشَادُ الْغَيْرِ إِلَى الْخَيْرِ وَتَحْذِيرِهِ مِنَ الشَّرِّ وَإِرْشَادُ النَّفْسَ إِلَيْهِ وَتَحْذِيرِهَا مِنْهُ مُقَدَّمٌ بِشَواهِدِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ.
أَمَّا الْعَقْلُ فَبَدِيهِيّ، وَأَمَّا النَّقْلُ فَكَثِيرَةٌ مَنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ:
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً}، وَعَن خَلِيل اللهِ إِبْراهيم {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ}، فَمَنْ وَعَظَ غَيْرَهُ وَلَمْ يَتَّعِظْ فَكَأَنَّهُ أَتَى بِمَا لا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ السَّلِيمِ.
تَمَسَّكْ بِتَقْوَى اللهِ فَالْمَرء لا يَبْقَى ** وَكُلّ امْرِئٍ مَا قَدْمَتْ يَدُهُ يَلْقَى

وَلا تَظْلِمَنَّ النَّاسَ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ ** وَلا تَذْكُرَنَّ إِفْكًا وَلا تَحْسِدَنَّ خَلَقًا

وَلا تَقْرِبَنَّ فِعْلَ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ ** لَذَاذَتَهُ تَفْنَى وَأَنْتَ بِهِ تَشْقَى

وَعَاشِرْ إِذَا عَاشِرْتَ ذَا الدِّينِ تَنْتَفِعُ ** بِعِشْرَتِهِ واحْذَرْ مُعَاشَرَةِ الْحَمْقَى

وَدَار عَلَى الإِطْلاقِ كُلاً وَلا تَكُنْ ** أَخَا عجل فِي الأَمْر وَاسْتَعْمَلِ الرِّفْقَا

وَخَالِفْ حُظُوظ النَّفْسِ فِيمَا تَرُومُهُ ** إِذَا رُمْتَ لِلْعَلْيَا أَخَا اللُّبِّ أَنْ تَرْقَى

تَعَوَّد فِعَال الْخَيْرِ جَمْعا فَكُلَّما ** تَعَوَّدَهُ الإِنْسَانُ صَارَ لَهُ خُلُقًا

اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَخَلِّصْنَا مِنْ حُقُوقِ خَلْقِكَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلُ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ، يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ، وَمُجِيبَ الدَّعَوَاتِ، هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ، وَحَقَّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ، يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي صُدُورِ الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَة مَغْفِرَتُكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْل:
وَمِنْهَا أَنَّ الْوَاعِظَ الْفَاعِلَ لِلْمُحَرَّمَاتِ الْمُحَذِّرَ عَنْهَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْمَعْصِيةِ لأَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لَوْلا أَنَّ هَذَا الْوَاعِظَ مُطَّلِعٌ عَلَى أَنَّهُ لا أَصْلَ لِهَذِهِ التَّخْوِيفَاتِ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الْمَنَاهِي وَالْمُنْكَراتِ فَيَكُونُ دَاعِيًا إِلَى التَّهَاوُنِ بِالدِّينِ وَالْجُرْءَةِ عَلَى الْمَعَاصِي، وَهَذَا مُنَافٍ لِلْغَرَضِ مِنَ الْوَعْظِ فِلا يَلِيقُ بِالْعُقَلاءِ.
وَمِنْهَا أَنَّ غَرَضَ الدَّاعِي تَرْوِيجُ كَلامِهِ وَتَنْفِيذُ أَمْرِهِ فَلَوْ خَالَفَ إِلَى مَا نَهَى عَنْهُ صَارَ كَلامُهُ بِمَعْزِلٍ عن الْقُبُولِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ لا يَلِيقُ بِالْعُقَلاءِ.
وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: عُلَمَاءُ السُّوءِ جَلَسُوا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ يَدْعُونَ إِلَيْهَا النَّاسَ بِأَقْوَالِهِمْ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى النَّارِ بِأَفْعَالِهِمْ، فَكُلَّما قَالَتْ أَقْوَالُهُمْ لِلْنَاسِ هَلُمُّوا قَالَتْ أَفْعَالُهُمْ لا تَسْمَعُوا مِنْهُمْ فَلَوْ كَانَ مَا دَعَوا إِلَيْهِ حَقًّا كَانُوا أَوَّلَ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُ، فَهُمْ فِي الصُّوَرِ أَدِلاءِ وَفِي الْحَقِيقَة قُطَّاعُ طَرِيقٍ. قُلْتُ: وَمَا أَكْثَر هَؤُلاءِ فِي زَمَنِنَا.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسَ زَمَانٌ يَمْلَحُ فيه عُذُوبَةِ الْقُلُوب فَلا يَنْتَفَعَ بِالْعِلْمِ يَوْمَئِذٍ عَالِمُهُ وَلا مُتَعَلِّمَهُ فَتَكُون قُلُوب عُلَمَائِهِمْ مِثْل السِّبَاخِ مِنْ ذَوَاتِ الْمِلْحِ يَنْزِلُ عَلَيْهَا قَطْرَ السَّمَاءِ فَلا يُوَجَدُ لَهَا عُذُوبَة.
وَذَلِكَ إِذَا مَالَتْ قُلُوبُ الْعُلَمَاءِ إِلَى حُبِّ الدُّنْيَا وَإِيثَارِهَا عَلَى الآخِرَة فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْلُبُهَا اللهُ تَعَالَى يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ وَيُطْفُئُ مَصَابِيحَ الْهُدَى مِنْ قُلُوبِهِمْ فَيُخْبِرُكَ عَالِمُهُمْ حِينَ تَلْقَاهُ أَنَّهُ يَخْشَى اللهَ بِلِسَانِهِ وَالْفُجُورُ ظَاهِرٌ فِي عَمَلِهِ. قُلْتُ: وَمَا أَكْثَرُ هَؤُلاءِ فِي زَمَنِنَا فَتَأَمْلْ وَدَقِّقِ النَّظَرَ تُصَدِّق. وَمِنَ الْعَجِيبِ مَا حَدَثَ فِي زَمَنِنَا تَجِدُ بَعْضهُمْ يَحْمِلُ شَهَادَةَ الدُّكْتُورَاة أَوْ الْمَاجِسْتِيرِ أَوْ هُمَا وَيُعْطَى فِيهَا شَهَادَةً فِي الْفِقْهِ الإِسْلامي.
وَهُوَ مَا يُحْسِنُ إِلا مَا كَتَبَ فِيهِ بَحْثًا، إِمَّا مَوْضُوع الرِّبَى أَوْ السَّرقة أَوْ الْخَمْرِ مَثَلاً، وَلا يُجِيدُ غَيْرَ هَذَا الْمَوْضُوع الَّذِي حَصَلَ عَلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِسَبَبِهِ.
بَلْ الْفَرَائِض التَّي نَصِفُ الْعِلْم لا يُجِيدُهَا فَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ الْعَلِي الْعَظِيم.
فَمَا أَخْصَبَ الأَلْسُنَ يَوْمَئْذٍ وَمَا أَجْدَبُ الْقُلُوبَ، قَالَ: فَوَاللهِ الَّذِي لا إله إِلا هَوَ مَا ذَلِكَ إِلا وَاللهُ أَعْلَمُ، كما قَالَ بَعْضُهُمْ: لأَنَّ الْمُعَلِّمِينَ عَلَّمُوا لِغَيْرِ اللهِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ تَعَلَّمُوا لِغَيْرِ اللهِ.
لَعَمْرُكَ مَا الأَبْصَارَ تَنْفَعُ أَهْلَهَا ** إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُبْصِرِينَ مِنْ بَصَائِر

وَبِالْحَقِيقَة إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الأَكْثَرِيَّةِ السَّاحِقَةِ مِمَّنْ حَوْلَكَ مِنْ أَسَاتِذَةٍ وَمُدَرِّسِي وَطُلابٍ وَجَدْتَ هَيْبَةَ الإِسْلامِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالشَّهَامَةِ وَالرُّجُولَةِ الإِسْلامِيَّة قَدْ نُزِعَتْ مِنْهُمْ يَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ.
وَيُوفِّرُونَ شَوَارِبَهُمْ وَيَجْعَلُونَ تَوَالِيَاتٍ، وَرُبَّمَا خَنْفَسُوا وَتَجِدُهُمْ يُجَالِسُونَ الْفَسَقَةَ وَيَنْدَمِجُونَ مَعَهُمْ وَبَعْضُهُمْ تَجِدَهُ يَشْرَبُ أَبَا الْخَبَائِثِ الدُّخانَ وَرَبَّمَا فَعَلَهُ أَمَامَ الطُّلابِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ.
وَلا تَجِدُهُ فِي الْغَالِبِ يُصَلِّي مَعَ الْجَمَاعَةِ وَيُعَامِلُ الْمُعَامَلَة التِّي لا تَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ وَتَجِدَهُ يَجْلِسُ أَمَامَ التَّلَفزيُون وَعِنْدَ الْمِذْيَاعِ وَأَغَانِيهِ وَعِنْدَ السِّينماء وَالْفِيدْيُو وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ التَّي قَتَلَتِ الأَخْلاقَ.
وَيُحِبُّ الشُّهْرَةَ وَالظُّهُورِ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَكَيْفَ يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلاءِ يَأْمُرُونَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ يَنْهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ، كَلا وَاللهِ إِنَّهُمْ لا يُزِيلُونَ الْمُنْكَرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَلا عَنْ بُيُوتِهِمْ التَّي فِيهَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ مَا يُدْهِشُ الأَسْمَاعَ وَالأبَْصَارَ وَالْعُقُولِ.
إِذَا لَمْ يُعِنْكَ اللهُ فِي طَلَبِ الْعُلا ** فَسَعْيَكَ فِي جَمْعِ الْفَضَائِلِ ضَائِعٌ

آخر:
لَيْسَ الْجَمَالُ بِأَثْوَابٍ تُزَيِّنُنَا ** إِنَّ الْجَمَالَ جَمَالُ الْعِلْمِ وَالأَدَب

فَعِلْمُ هَؤُلاءِ الْعِلْمُ الَّذِي يَضُرُّ وَلا يَنْفَعُ وَهُوَ الَّذِي اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ وَقَلْبٍ لا يَخْشَعُ وَدُعَاءٍ لا يُسْمَعُ». فَابْعِدْ عَنْهُمْ وَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْهُمْ أَيُّهَا الْمُعَافَى.
صَارَ الأَسَافِلُ بَعْدَ الذُّلِ أَسْنِمَةً ** وَصَارَتْ الرَّوسُ بَعْدُ الْعِزِّ أَذْنَابًا

لَمْ تَبْقَ مُأْثَرَةٌ يَعْتَدُهَا رَجُلٌ ** إِلا التَّكُاثُرُ أَوْرَاقًا وَأَذْهَابًا

آخر:
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ ** كُلَّما بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمًا

وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعَلْمِ مُهْجَتِي ** لأخدمُ مَنْ لاقَيْتُ لِكِنْ لأُخْدَمَا

أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهُ ذِلَّةً إِذًا ** فَاتّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا

فَإِنْ قُلْتُ زَنْدَ الْعِلْمِ كَابٍ فَإِنَّهُمَا ** كَبَا حِينَ لَمْ تُحْمَى حِمَاهُ وَأَظْلَمَا

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ** وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا

وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا ** مَحْيَاهُ بِالأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا

وَنَعُودُ إِلَى كَلامِنَا السَّابِقِ حَوْلِ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَالآيَةُ كَمَا تَرَى نَاعِيَةً عَلَى كُلِّ مَنْ يَعِظُ غَيْرَهُ وَلا يَتَّعِظُ بِسُوءِ صَنِيعِهِ وَعَدَمِ تَأَثُّرِهِ، وَإِنَّ فِعْلَهُ فِعْلَ الْجَاهِلُ بِالشَّرْعِ أَوْ الأَحْمَقُ الَّذِي لا عَقْلَ لَهُ فَإِنَّ الأَمْر بِالْخَيْرِ مَعَ حِرْمَانِ النَّفْسِ مِنْهُ مِمَّا لا يَتَّفِقُ وَقَضِيَّةَ الْعَقْلِ وَالْمُرَادُ بِهَا حَثُّهُ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَالإِقْبَالِ عَلَيْهَا بِالتَّكْمِيلِ لِتَقُومَ بِالْحَقِّ فَتُكَمِّلَ غَيْرَهَا.
وقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} فَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ مِنْ اللهِ لِمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُقَصِّرٌ كّمَنْ يَكْذِبُ فِي قَوْلِهِ أَوْ يَخْلُفُ مَا وَعَدَ.
وَعَنْ أُسَامَةَ بِنْ زَيْدٍ بِنْ حَارِثَةِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقَ أَقْتَابَ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ فِي الرَّحَى فَيَجْتَمِعَ إِلَيْهِ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلانُ مَا لَكَ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بَي رِجَالاً تُقْرَضُ شِفَاهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنَ النَّارِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: الْخُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا يَعْقِلُونَ». رَوَاهُ ابن حبان فِي صحيحه.
وَإِنَّمَا يُضَاعَفْ عَذَابُ الْعَالِمِ فِي مَعْصِيتِهِ لأَنَّهُ عَصَى عَنْ عِلْمٍ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَلأَنَّهُ قُدْوَةٌ فَيَزِلُّ بِزَلَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرُونَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ زِلْةُ الْعَالِمِ زَلْةُ الْعَالَمِ. وَقِيلَ كَالسَّفِينَة إِذَا غَرَقَتْ غَرَقَ مَعَهَا أُمَمٌ مَا يُحْصِيهُمْ إِلا اللهُ.
وَفِي الْخَبَرِ: «وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيْئِةً فَعَلَيْهِ وِزْرَهَا وَوِزْرَ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا». وَذَلِكَ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ اقْتَدَوا بِهِمْ فِي السُّوءِ فَيَنَالُهُمْ مِثْلَ عِقَابِ أَتْبَاعِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}، وَقَالَ: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
قَالَ: وَجُمْلَةُ الأَمْرِ أَنَّ مَنْ فَتَحَ بَابِ الشَّرِّ لِغَيْرِهِ وَسَهَّلَ لَهُ الدُّخُولَ فِيهِ فَقَدْ عَظُمَ عَذَابُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ دَعَا إِلَى خَيْرٍ وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَسَهَّلَ لَهُ طَرِيقَهُ فَقَدْ عَظُمَ قَدْرُهُ وَحَسَنَ جَزَاؤُهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتّرمذي، وَقَالَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ: «مثل الَّذِي يُعَلِّمُ الْخَيْرَ وَلا يَعْمَلُ بِهِ مِثْلُ الْفَتِيلَةِ تُضِيءُ لِلنَّاسِ وَتَحْرِقُ نَفْسَهَا». رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي بُرْزَةَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرْة وَلِلْعَالِمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَصَمَ ظَهْرِي رَجُلانِ عَالِمٌ مُتَهْتِكٌ وَجَاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ، فَالْجَاهِلُ يَغُرُّ النَّاسَ بِنُسُكِهِ وَالْعَالِمُ يَغُرُّهُمْ بِتَهَتُّكِهِ. وَقَالَ حَكِيمٌ: أَفْسَدَ النَّاسَ جَاهِلٌ نَاسِكٌ وَعَالِمٌ فَاجِرٌ؛ هَذَا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى جَهْلِهِ بِنُسُكِهِ، وَهَذَا يُنَفِّرُ النَّاسَ عَنْ عِلْمِهِ بِفِسْقِهِ.
وَمِنْهَا التَّواضُعُ وَمُجَانَبَةُ الْعُجْبِ، فَذَلِكَ بِالدُّعَاةِ وَالْمُرْشِدِينَ أَلْيَق وَلَهُمْ أَلْزَم لأَنَّ النَّاسَ بِهِمْ يَقْتَدُونَ، وَكَثِيرًا مَا يُدَاخِلُهُمْ الْعُجْبِ لِتَوَحُّدِهِمْ بِفَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ نَظَرُوا حَقَّ النَّظَرِ وَعَمِلُوا بِمُوجَبِ الْعِلْمِ لَكَانَ التَّوَاضُعُ بِهِمْ أَوْلَى، وَمُجَانَبَةُ الْعُجْبِ بِهِمْ أَحْرَى وَأَنْسَبُ، لأَنَّ الْعُجْبَ نَقْصُ يُنَافِي الْفَضْلَ، فَلا يَفِي مَا أَدْرَكُوهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ بِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ نَقْصِ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ.
دَعْ الْكِبْرَ وَاجْنَحْ لِلتوَاضُعِِ تَشْتَمِلْ ** وِدَادَ مَنِيعِ الْوُِدِّ صَعْبٌ مَرَاقُهُ

وَدَاوِِ بِلِينٍ مَا جَرَحْتَ بِغِلْظَةٍ ** فَطِيبُ كَلامِ الْمِرْءِ طُبُّ كَلامِه

آخر:
جِئْ بِالسَّمَاحِ إِذَا مَا جِئْتَ فِي غَرَضٍ ** فَفِي الْعُبُوسِ لِدَى الْحَاجَاتِ تَصْعِيبٌ

سَمَاحَةُ الْمَرْءِ تُنَبِئُ عَنْ فَضِيلَتِهِ ** فَلا يَكُنْ لَكَ مَهْمَا اسْتَطَعْتَ تَقْطِيبٌ

وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَلِيلُ الْفِقْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعِبَادَةِ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً إِذَا أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ، وَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلانِ مُؤْمِنٌ وَجَاهِلٌ فَلا تُؤْذِ الْمُؤْمِنَ، وَلا تُحَاوِرُ الْجَاهِلَ». وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لأَبِي ثَعْلَبَةَ حِينَ ذَكَرَ آخِرَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَمَا تَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْحَوَادِثِ: «إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوىً مُتَّبِعًا، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ». رَوَاهُ أَبُو دَاودُ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ مَهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوَىً مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ، وَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ مَوْضُوعُ التَّوَاضُعِ، وَافِيًا بِأَدِلَّتِهِ وَعِلَةُ إِعْجَابِ الْمُعْجَبِ بِعَمَلِهِ، وَنَظَرُهُ إِلَى كَثْرَةِ مَنْ دُونِهِ مِنْ الْجُهَّالِ وَانْصِرَافُ نَظَرِهِ عَنْ مَنْ فَوْقَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فِإِنَّهُ مَا حَوَى الْعِلْمَ كُلَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ، فَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلا وَفَوْقُهُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}، فَاللهُ جّلَّ وَعَلا هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ كُلَّ شَيْء، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}، وَقَالَ: {وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وَقَالَ: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، وَقَالَ: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.
وَقَلَّمَا تَجِدُ مُعْجَبًا بِعِلْمِهِ شَامِخًا بِأَنْفِهِ إِلا وَهُوَ قَلِيلُ الْعِلْمِ ضَعِيفُ الْعَقْلِ لأَنَّهُ يَجْهَلُ قَدْرَهُ وَيَحْسِبُ أَنَّهُ نَالَ مِنْهُ أَكْثَرَهُ، وَاللهُ يَقُولُ: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}، قَالَ: وَمِنْهَا أَنْ لا يَبْخَلَ بِتَعْلِيمِ مَا يُحْسِنُ وَلا يَمْتَنِعُ مِنْ إِفَادَةِ مَا يَعْلَمُ فَإِنَّ الْبُخْلَ بِهِ ظُلْمٌ وَلُؤْمٌ وَالْمَنْعُ مِنْهُ إِثْمٌ.
إِذَا مَا مَاتَ ذُو عِلْمٍ وَتَقْوَى ** فَقَدْ ثَلمَتْ مِنَ الإِسْلامِ ثُلْمَهْ

وَمَوْتُ الْعَادِلِ الْمَلِكِ الْمُوَلَّى ** لِحُكْمِ الْخَلْقِ مَنْقَصَةً وَقَصْمَهْ

وَمَوْتُ الْعَابِدِ الْمَرْضِيِّ نَقْصٌ ** فَفِي مَرْآهُ لِلأَسْرَارِ نَسْمَهْ

وَمَوْتُ الْفَارِسِ الضِّرْغَامِ هَدْمٌ ** فَكَمْ شَهَدَتْ لَهُ بِالنَّصْرِ عَزْمَهْ

وَمَوْتُ فَتَى كَثِيرِ الْجُودِ نَقْصٌ ** لأَنَّ بَقَاءَهُ فَضْلٌ وَنِعْمَهْ

فَحَسْبُكَ خَمْسَةٌ يُبْكَى عَلَيْهمْ ** وَمَوْتُ الْغَيْرِ تَخْفِيفٌ وَرَحْمَهْ

قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لا تَمْنَعُوا الْعِلْمَ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ فَسَادُ دِينِكُمْ وَالْتِبَاسُ بَصَائِرِكُمْ». ثُمَّ قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى هَذِهِ الآيَةِ: هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَتَمَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الدَّلالاتِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْصَحِيحَةِ وَالْهُدَى النَّافِعُ لِلْقُلُوب، مِنْ بَعْدِ مَا بَيَنَهُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادَهُ فِي كُتِبِهِ، التَّي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ، اهـ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِجَامٌ مِنْ نَارٍ».
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ قَالَ: لَوْلا آيَةُ فِي كِتِابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُ أَحَدًا شَيْئًا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآيَة، وَمِمَّا يُحْسِنُ بِالدَّاعِي وَالْمُرْشِدِ أَنْ يَتَحَلَّى بِالْوَرَعِ بِاتِّقَاءِ الشُّبُهَاتِ، وَالْبُعْدِ مِنْ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ، وَمَسَالِكِ التُّهْمَةِ.
فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْرَأُ لِدِينِهِ وَأَسْلَمُ لِعِرْضَهَ، وَأَدْعَى إِلَى الانقِيادِ لَهُ لأَنَّ حَالَ الدَّاعِي يُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ أَكْثَرُ مِنْ مَقَالِهِ، فَإَذَا كَانَ وَرِعًا تَقِيًّا مُتَجَنِّبًا مَا فِيهِ شُبْهَةٌ اقتَدَى بِهِ النَّاسُ، وَأَحَبُّوهُ وَقَبِلُوا وَعْظَهُ وَإِرْشَادَهُ، وَهَكَذَا كَانَتْ صِفَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ.
واحْذَرْ يَا أَخِي كُلّ الْحَذَرِ مِنْ احتِكَارِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى قَالَ اللهُ وَقَالَ رَسُولِهِ وِأَخْذ شَيْء من الدُّنْيَا بِاسْمِ تَحْقِيقٍ أَوْ نَشْرٍ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ، نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ مِمَّا ابتُلُوا بِهِ.
لَوْلا الشَّيَاطِينَ لَمْ تَسْمَعْ سِوَى لَهْجٍ ** بِالذَّكْرِ أَوْ مَا أَتَى عَنْ سَيِّدِ الْبّشَرَ

آخر:
لَوْلا الشَّيَاطِينَ صَارَ النَّاسُ كُلَهُمْ ** عَلَى الْحَنِيفِيةِ السَّمْحَاءِ عُبَّادُ

فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرَةٍ سَاقِطَةٍ فَقَالَ: «لَوْلا أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا». وَقَدِمَ عَلَى عُمَر مِسْكٌ وَعَنْبَرٌ مِنَ الْبَحْرَيْنِ. فَقَالَ: وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً حَسَنَةَ الْوَزْنِ تَزِنُ لِي هَذَا الطِّيبَ حَتَّى أَقْسِمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَتْ امْرَأَتَهُ عَاتِكَةُ: أَنَا جَيِّدَةُ الْوَزْنِ فَأَنَا أَزِنُ لَكَ، قَالَ: لا. فَقَالَتْ: لِمَ؟ قَالَ: لأَنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْخُذِيهِ، فَتَجْعَلَيْهِ هَكَذَا، وَأَدْخَلَ أَصَابِعَهُ فِي صِدْغَيْهِ وَتَمْسَحِي بِهِ فِي عُنُقِكِ فَأُصِيبُ فَضْلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَانَ يُوزَنُ بَيْنَ يَدَيّ عُمَرَ بِنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِسْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَسَدَّ أَنْفُهُ بِيَدِهِ؛ حَتَّى لا تُصِيبُهُ الرَّائِحَةَ، وَقَالَ: وَهَلْ يَنْتَفِعَ مِنْهُ إِلا بِرِيحِهِ. قَالَ ذَلِكَ لَمَّا اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ وَرَعِ الْمُتَقِينَ.
قُلْتُ: وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يِتَّصِفَ بِهِ أَيْضًا قَطْعُ الْعَلائِقِ حَتَّى لا يِكْثُرَ خَوْفُهُ، وَيَقْطَعَ الطَّمَعَ عَنْ الخْلائِقِ فَلا يَكُونُ لَهُ عِنْدَهُمْ حَاجَةٌ تُذِلَّهُ لَهُمْ، وَتَدْعُوهُ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ، وَالإِغْضَاءِ عَنْ أَعْمَالِهُمْ الْقَبِيحَةِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهمْ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً}. {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وِفِي الْمَالِ قِلْةٌ ** وَلَنْ يَقْضِي الْحَاجَاتِ إِلا الْمُهَيْمِن

آخر:
إِنْ حَالَ دُونَ لِقَاءِكِمْ بَوَّابُكُمْ ** فَاللهُ لَيْسَ لِبَابِهِ بَوَّابٌ

آخر:
فَاضْرَعْ إِلَى اللهِ لا تَضْرَعْ إِلَى النَّاسِ ** وَاقْنَعْ بِعِزٍّ فَإِنَّ الْعِزَّ فِي الْيَاسِ

وَاسْتَغْنِ عَنْ كُلّ ذِي قُرْبَى وَذِي رَحِمٍ ** إِنَّ الْغَنِيَّ مَنِ اسْتَغْنَى عَنْ النَّاس

وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْحُذَّاقِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ كَلْبٌ وَلَهُ صَدِيقٌ قَصَّابٌ يّأْخُذُ مِنْهُ لِكَلْبِهِ بَعْضَ السَّوَاقِطِ، فَرَأَى عَلَى الْقَصَّابِ مُنْكَرًا يَتَعَاطَاهُ، وَقَالَ: لابد أَنْ أُبْرِيَ ذِمْتَي وَأَنْصَحَهُ، وَلَكِنْ أَبَدَأُ أَوْلاً بِقَطْعِ الطَّمَعِ فَدَخَلَ الْبُسْتَانَ وَأَخْرَجَ الْكَلْبَ وَطَرَدَهُ ثُمَّ جَاءَ وَاحْتَسَبَ عَلَى الْقَصَّابِ وَنَصَحَهُ وَأَغْلَظَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَصَّابُ: سَوْفَ لا أُعْطِيكَ لِكَلْبِكَ شَيْئًا أَبَدًا. فَقَالَ: أَنَا حَاسِبٌ لِهَذَا الْكَلامِ مَا أَتَيْتُكَ إِلا بَعْدَ أَنْ طَرَدْتُ الْكَلْبَ عَنْ بُسْتَانِي.
فَمَنْ لَمْ يَقْطَعِ الطَّمَعَ، وَيَسُدُّ بَابَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحِسْبَةِ. قُلْتُ: وَمِثْلَهُ عِنْدِي فِي الْغَالِبِ مَنْ يُوَالِي الْعَطَاء عَلَى إِنْسَانٍ فَيَبْعُدُ إِذَا رَآهُ صَدَرَ مِنْهُ مَعْصِيةً أَوْ مَعَاصِي أَنَّهُ يَنْصَحُهُ أَوْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ لأَنَّهُ يَرْجُوهُ وَيَخَافُهُ، يَرْجُو الصِّلَةَ وَيَخَافُ قَطْعُهَا، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَيَبْعُدُ أَيْضًا قُبُولِ صَاحِبِ الْفَضْلِ لِلنَّصِيحَةِ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُنْتَظَرِ لِمَا فِي يَدِهِ، نَسْأَلُ اللهَ الْعِصَمَةَ.
وَكَمْ ضّلَّ عَنْ الطَّرِيقِ السَّوِيِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ بِسَبَبِ مُدَاهَنَةِ الْمُدَاهِنِ وَتَغْرِيرِهِ لَهُمْ، هَذِهِ قِيمَةُ النَّاصِحِ، وَالْمُدَاهِن عِنْدَ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ الإِيمَانِ وَلَكِنْ نَرَى النَّاسَ الْيَوْم عَكَسُوا الأَمْر فِي هَذِهِ الأَزْمَانِ، لا مُنْتَهى لِحُبِّهِمْ مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَنْبًا عَظِيمًا، وَلا غَايَةَ لِبُغْضِهِمْ مَنْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَرُبَّمَا هَجَرُوهُ جَزَاءَ نُصْحِهِ، وَأَمَّا الْمُدَاهِنُ وَالْمُتَمَلِقُ الْمُنَافِقُ ذُو الْوَجْهَينِ فَبِكَلِمَةٍ مِنْ مُدَاهَنَاتِهِ، أَوْ وِشَايَاتِهِ أَوْ تَمَلُّقَاتِهِ أَوْ كَذِبَاتِهِ يَمْلِكُ قُلُوبَ الْكَثِيرِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَان وَقَدْ يُرَفَّعُ وَيُقَدِّر مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ كَمَا قِيلَ:
مَتَى مَا تُدَان أَوْ تَكُنْ ذَا تَمَلْقٍ ** وَنَمٍّ وَبَهْتٍ تَخْتَطِبْكَ الْمَرَاتِبُ

وَإِنْ تَجْمَعِ الإِخْلاصَ وَالصِّدْقِ وَالْوَفَا ** وَعِلْمًا وَحِلْمًا تَجْتَنِبُكَ الْمَنَاصِبُ

آخر:
لا تُنْكِرِي يَا عَزُّ إِنْ ذَلَّ الْفَتَى ** ذُو الأَصْلِ وَاسْتَولَى لَئِيمُ الْمُحْتِد

**إِنَّ الْبُزَاةَ رُؤسُهُنَّ عَوَاطِلُ ** وَالتَّاجُ مَعْقُودٌ بِرَأْسِ الْهُدْهُد
آخر:
حَذَفْتُ وَغَيْرِي مُثَبِّتْ فِي مَكَانِهِ ** كَأَنِّي نُونُ الْجَمْعِ حِينَ يُضَافُ

آخر:
مَنْ أَهْمَلَ الدِّينَ لا تَأْمَنْ عَقَارِبَهُ ** وَلَوْ تَسَمَّى بِإِخْلاصٍ بِنِيَّاتٍ

لآدَمٍ جَاءَ إِبْلَيْسٌ وَقَالَ لَهُ ** إِنِّي لَكْمُ نَاصِحٌ فَاسْمَعْ مَقَالاتِي

فَأَقَسَمَ الْخُبَثُ فِي رَبِّي وَنُزُلُهُمْ ** مِنَ الْجِنَانِ إِلَى دَارِ الأَذِيَّات

اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِسَبِيلِ الطَّاعَةِ، وَثَبتنَا عَلَى إِتِّبَاعِ السُّنْةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَلا تَجْعَلْنَا مِمَّنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَأَضَاعَهُ، وَأَخْتِمْ لَنَا بِخَيْرٍ مِنْكَ يَا كَرِيمُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْياءَِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
مَوْعِظَة:
عِبَادَ اللهِ إِنَّ مِنْ أَخَصِّ صِفَاتِ الْمُؤْمِن عَمَلُهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» وَمَحَبَتُهُ لِلنَّاصِحِينَ. وَكُلَّما اجْتَهَدَ الْمُسْلِمُ وَبَالَغَ فِي النَّصِيحَةِ لإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ قَوِيَتْ مَحَبَّتُهُ فِي قُلُوبِ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَمَّا الْمُدَاهِنُ وَالْمُتَمَلِّقُ الَّذِي يُحَسِّنُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ حَالَهُ، وَلَوْ كَانْتْ حَالَةَ إِجْرَامٍ وَفَسَادٍ فَهَذَا يُنَفِّرُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَلا يُحِبُّونَهُ وَيَرَوْنَ صَدَاقَتُهُ مُصِيبَةً وَبَلِيَّةً فَلِذَا يَبْتَعِدُونَ عَنْهُ كُلّ الْبُعْدِ. لأَنَّهُ إِنْ صَحْبَ مُسْتَقِيمًا ادْخَلَ عَلَيْهِ الْعُجْبَ فِي عَمَلِهِ، وَخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ صَفْوَةِ عِبَادِ اللهِ الْمُتَّقِينَ، فَيَغُرُّهُ بِنَفْسِهِ. وَالْمَرءُ إِذَا اغْتَرَّ هَوَى فِي هُوَّةِ الأَشْقِياءِ. وَإِذَا صَحِبَ الْمُدَاهِنُ الْمُتَمَلِقُ مُعَوَّجًا زَادَ اعْوِجَاجَهُ حَيْثُ أَنَّهُ يُفْهِمُهُ بِمُدَاهَنَتِهِ أَنَّهُ مِنْ خِيارِ الْفُضَلاءِ وَمَنْ الأَجِلاءِ النُّبَلاء.
وَمَتَى فَهِمَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ اسْتَمَرَّ وَتَمَادَى فِي اعْوِجَاجِهُ، وَقَوِيَتْ وَتَمَكَّنَتْ مِنْهُ الأَخْلاقُ الْفَاسِدَةُ، وَمَاتَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ الشَّنِيعَةِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ النَّاصِحُ الْمُحِبُ لأَخِيهِ مَا يُحِبُ لِنَفْسِهِ فَيَفْهَمُ الْمُهَذَّبُ الْمُتَنَوِّرُ أَنَّهُ مَهْمَا كَانَ كَمَالُهُ أَنَّهُ مُقَصِّرٌ فِي شُكْرِ مَوْلاهُ الَّذِي جَعَلَهُ مِنْ بَنِي آَدَمَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَوَفَّقَهُ لِلإِيمَانِ، وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ وَغَيرِهَا وَوَهَبَهُ الْعَقْلَ، وَسَائِرَ النِّعَمِ التَّي لا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى.
وَمَتَى فَهِمَ أَنَّهُ مُقَصِّرٌ، حَمِدَ مَوْلاهُ وَشَكَرَهُ عَلَى مَا أَوْلاهُ وَجَدَّ وَاجْتَهَدُ فِيمَا بِهِ رُقِيُّهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَإِنْ رَأَى مُعْوَجًّا أَفْهَمَهُ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنٍ نَقْصٍ وَوَضَّحَ لَهُ عُيُوبَهُ، وَمَا عِنْدَهُ مِنْ تَقْصِيرٍ فِي دِينِهِ وَحَثَّهُ عَلَى الْجَدِّ وَالاجْتِهَادِ وَالسَّعْيِ إِلَى مَعَانِي الأَخْلاقِ.
وَمَتَى عَرِفَ الْعَاقِلُ نَقْصَهُ، وَأَنَّ الضَّرَرَ عَائِدٌ إِلَيْهِ، أَقْلَعَ عَنْهُ، وَأَصْبَحَ مِنَ الْمُهَذَّبِينَ الْمُتَنَوِّرِينَ الصَّاعِدِينَ إِلَى أَوَجِ الْكَمَالِ، فِكَمْ اهْتَدَى بِإِذْنِ اللهِ بِسَبَبِ الْمُؤْمِنِ النَّاصِحِ مِنْ أُنَاسٍ قَدْ تَاهُوا وَتَمَادَوْا فِي الضَّلالِ.
وِاسْمَعْ إِلَى قَوْلِ الإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ لَمَّا ذَكَرَ نُفَاةِ الصِّفَاتِ أَهْلَ الْبِدَعِ وَحَيْرَتِهِمْ وَشُبُهَاتِهِمْ وَشُكُوكُهُمْ وَأَنَّهُ جَرَّبَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الشِّبَاكِ وَالْمَصَايِدِ حَتَّى أَتَاحَ لَهُ الْمَوْلَى بِفَضْلِهِ مَنْ نَشَلَهُ وَأَوْضَحَ لَهُ تِلْكَ الشُّبَهِ وَأَزَاحَ عَنْهُ تِلْكَ الشُّكُوكِ وَهُوَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَةِ رَحِمَهُ اللهُ فَقَالَ فِي النُّونِيَّةِ:
يَا قَومُ بِاللهِ العَظِيمِ نَصِيحةٌ ** مِن مُشفِقٍ وَأخٍ لَكُمْ مِعَوَانِ

جَرَّبتُ هَذَا كُلَّهُ وَوَقَعتُ فِي ** تِلكَ الشِّبَاكِ وَكُنْتُ ذَا طَيَرَانِ

حَتَّى أَتَاحَ لِيَ الإِلهُ بِفَضلِهِ ** مَنْ لَيْسَ تَجْزِيهِ يَدِي وَلِسَانِي

حَبْرًا أتَى مِن أرضِ حَرَّانٍ فَيَا ** أَهْلاً بِمَن قَدْ جَاءَ مِنْ حَرَّانِ

فَالله يَجزِيهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ** مِن جَنَّةِ الْمَأَوَى مَعَ الرِّضوَانِ

أخَذَتْ يَدَاهُ يَدِي وَسَارَ فَلَمْ يَرِمْ ** حَتَّى أرَانِي مَطلَعَ الإِيمَانِ

وَرَأيتُ أعلاَمَ المدِينَةِ حَولَهَا ** نَزَلَ الهُدَى وَعَسَاكِرُ القُرآنِ

وَرَأيتُ آثاراً عَظِيماً شَأنُهَا ** مَحجُوبَةً عَن زُمرَةِ العُميَانِ

وَوَرِدْتُ رَأسَ الماءِ أبيَضَ صَافِياً ** حَصبَاؤهُ كلآلىء التِّيجَانِ

وَرَأيتُ أكوَاباً هُناكَ كَثِيرةً ** مِثلَ النُّجُومِ لوَارِدٍ ظَمآنِ

وَرَأيتُ حَوضَ الكَوثَرِ الصَّافِي الذِي ** لاَ زَالَ يَشخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ

مِيزابُ سُنَّتِهِ وَقَولُ إِلَهِهِ ** وَهُمَا مَدَى الأَزْمَانِ لاَ يَنِيَانِ

وَالنَّاسُ لاَ يَرِدُونَهُ إلاَّ مِن الـ ** آلافِ أفرَاداً ذَوُوْ إيمَان

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبَّكَ وّحُبَّ الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبْنَا إِلَى حُبِّكَ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلُ مِنْ رَجَاهُ رَاج، اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنْ أَهْلِ الصَّلاحِ وَالنَّجَاحِ وَالْفَلاحِ، وَمَنْ الْمُؤَيِّدِينَ بِنَصْرِكَ وَتَأْيِيدِكَ وَرِضَاكَ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ أَمْرِكَ وَاجْتِنَابِ نَهُيِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.